القواعدُ الفقهيةُ

                  مَا لِلْمَقَاصِدِ مِنَ الأَحْكَامِ         فَلِلْوَسَائِلِ عَلى التَّمَام

                     الاسْتِطَاعَةُ بِهَا تَعَلَّقَا         وُجُوبُ مَا بِهِ أُمِرْنَا مُطْلَقَا  

                مبْنَى الشَّرِيعَةِ عَلَى أَصْلَيْـنِ أَنْ         تُخْلِـصَ للهِ وَتَتْبَـعَ السُّنَـنْ

                                            * * * 
                مَا لِلْمَقَاصِدِ مِنَ الأَحْكَامِ      فَلِلْوَسَائِلِ عَلى التَّمَامِ

 هذا شروعٌ في الكلامِ على القواعدِ الفقهيةِ والأصوليةِ التي تَضَمَّنَهَا هذا النظمُ، ولقد بدأ النَّظمُ
بهذه القاعدةِ: (الوسائلُ لها حكمُ المقاصدِ). 
وهذه قاعدةٌ أصوليةٌ جليلةٌ تَدْخُلُ في أبوابٍ كثيرةٍ من الفقهِ. 
ولكي نفهمَ مَرَامِيَ هذه القاعدةِ وَنَسْبُرَ غَوْرَهَا، ينبغي أولًا أن نُبَيِّنَ ما هو مقصودُنا بالمقاصدِ
والوسائلِ، وما هي علاقةُ الوسائلِ بالمقاصدِ،
وما هي مرتبةُ الوسائلِ من المقاصدِ، وما هي القواعدُ والفروعُ التي تَنْدَرِجُ ضِمْنًا في هذه
القاعدةِ الجليلةِ.

تعريفُ المقاصدِ:
المقاصدُ: هي الأعمالُ والتصرفاتُ المقصودةُ لِذَاتِهَا، والتي تَسْعَى النفوسُ إلى تَحْصِيلِهَا بمساعٍ شَتَّى أو تُحْمَلُ على السعيِ إليها امْتِثَالًا.
وعلى ذلك فَهِيَ تنقسمُ إلى قِسْمَيْنِ:
1- مقاصد للشرعِ الشريفِ.
2- مقاصد للناسِ في تَصَرُّفَاتِهِمْ.

والذي ينبغي الاهتمامُ به والتركيزُ عليه هنا ما يُسَمَّى بالمقاصدِ العامةِ للشرعِ الشريفِ، وهي المعانِي والحكمُ التي لحظها الشارعُ الحكيمُ في جميعِ أحوالِ التشريعِ أو مُعْظَمِهَا، بحيثُ لا نلمحُها في نوعٍ دونَ نوعٍ من الأحكامِ الشرعيةِ، بل نَرَاهَا ماثلةً في عامةِ أحكامِ التشريعِ. 

 والمقاصدُ الشرعيةُ نوعانِ:
1- مَعَانٍ حقيقيةٌ.
2- مَعَانٍ عُرْفِيَّةٌ عَامَّةٌ.
وَيُشْتَرَطُ في جميعِها أن يكونَ ثابتًا ظاهرًا مُنْضَبِطًا مُطَّرِدًا.
والمعانِي الحقيقيةُ هي التي تُدْرِكُ العقولُ السليمةُ المجردةُ ملاءمتَها للمصلحةِ أو منافرتَها لها، وهذا الإدراكُ لا يتوقفُ على معرفةِ العاداتِ أو التقاليدِ أو الأعرافِ أو الزمانِ أو المكانِ أو القوانينِ أو غيرِ ذلك مما هو طَارِئٌ على التشريعِ.

 وإذا أَرَدْنَا أن نوضحَ ذلك بمثالٍ، فَلْنَأْخُذِ العدلَ مِثَالًا لتلك المعانِي الحقيقيةِ، فالعقلُ يُدْرِكُ نفعَ العدلِ دونَ الرجوعِ إلى قانونٍ أو عادةٍ أو عُرْفٍ، وَقُلْ مثلَ ذلك في كونِ الاعتداءِ على النفوسِ ضارًّا، وكونِ الأخذِ على يدِ الظالمِ نافعًا للمجتمعِ...وَهَلُمَّ جَرًّا.
 وَلَسْنَا بحاجةٍ إلى التنبيهِ إلى أن العقولَ التي تُدْرِكُ في هذه المعانِي نَفْعًا أو ضُرًّا، هي العقولُ السليمةُ التي لم تَتَلَوَّثْ بمثالبِ العاداتِ الجاهليةِ وشذوذاتِ التقاليدِ الشيطانيةِ، فمثلُ هذه العقولِ
لا شَكَّ قد تَجْنَحُ إلى تحسينِ القبيحِ وتقبيحِ الحَسَنِ، دونَ الرجوعِ إلى قاعدةٍ أو ضَابِطٍ،
بل استنادًا إلى مَحْضِ الهَوَى والتَّشَهِّي.
هذا عن المقاصدِ أو المعانِي الحقيقيةِ التي تُدْرَكُ بواسطةِ العقلِ الصحيحِ وَالفِطَرِ النقيةِ السليمة
أما المقاصدُ أو المعانِي العُرْفِيَّةُ، فهي الأمورُ التي أَلِفَتْهَا النفوسُ وَأَدْرَكَتْ ما فيها من مصالحَ أو مفاسدَ، بناءً على تَكَرُّرِ التجربةِ وَاطِّرَادِ الوقائعِ والعاداتِ، كإدراكِ كونِ الإحسانِ معنًى ينبغي أن تَتَعَامَلَ به الأُمَّةُ، وكإدراكِ كونِ عقوبةِ الجانِي رادعةً له عن العودةِ إلى ممارسةِ الجريمةِ...وهكذا. 

وإذا أردتَ أخي الكريم أن تتوسعَ في إدراكِ هذه المعانِي، فعليكَ بكتابِ مقاصدِ الشريعةِ الإسلاميةِ لعلامةِ المقاصدِ في هذا الزمانِ الشيخِ الطاهرِ بنِ عَاشُورٍ -رحمه الله– فقد اسْتَخْلَصْتُ هذه الفوائدَ السالفةَ وَاعْتَصَرْتُهَا وَقَدَّمْتُ لكَ زبدتَها من مواضعَ شَتَّى من هذا السِّفْرِ الماتعِ. 

 أما الوسائلُ فتعريفُها أنها: هي الأحكامُ التي شُرِعَتْ لأنَّ بها تحصيلَ أحكامٍ أُخْرَى(1).
ومن هذا التعريفِ يتبينُ لنا أن الوسائلَ غيرُ مقصودةٍ لِذَاتِهَا بل لتحصيلِ غيرِها على الوجهِ الأكملِ، فبدونِ الوسيلةِ قد لا يتحققُ المقصدُ أَصْلًا، وإذا تَحَقَّقَ فإنه يتحققُ مُشْتَمِلًا على نوعِ خللٍ وَفَسَادٍ.

 ولتوضيحِ ذلك نضربُ المثالينِ الآتيينِ:

1- الإشهادُ على عقدِ النكاحِ وإشهارُه غيرُ مَقْصُودَيْنِ لِذَاتِهِمَا؛ وإنما شُرِعَا لمقصدٍ آخرَ وهو أنه وسيلةٌ للتمييزِ بينَ صورةِ النكاحِ الشرعيِّ وبينَ صورةِ السفاحِ المُحَرَّمِ(2).

2- الحَوْزُ للرَّهْنِ ليسَ مقصودًا لِذَاتِهِ، ولكنه شُرِعَ لتحقيقِ ماهيةِ الرهنِ، وحصولُ التوثيقِ المُفْضِي إلى حفظِ الحقوقِ حتى لا يقومَ الراهنُ -تحتَ ضغطِ الحاجةِ إلى المالِ – إلى رَهْنِهِ عندَ دائنٍ آخَرَ فَيَفُوتُ الرهنُ على الأولِ(3).

 وإذا عَلِمْنَا هذا، تَبَيَّنَ لنا أن الوسائلَ لا تَتَسَاوَى مع المقاصدِ بحالٍ من الأحوالِ، بل تأتِي تابعةً لها وَفِي الدرجةِ الثانيةِ بعدَها؛ لذلك كان من القواعدِ المقررةِ عندَ الأصوليينَ أنه: إذا سَقَطَ اعتبارُ المقاصدِ سَقَطَ اعتبارُ الوسائلِ. 

 ومما أَسْلَفْنَاهُ يتبينُ لنا ارتباطُ الوسائلِ بالمقاصدِ طَرْدًا وَعَكْسًا، وحتى نزيدَ الأمرَ بَيَانًا ننقلُ ما قاله الإمامانِ ابنُ القيمِ في كتابِه إِعْلَامِ المُوَقِّعِينَ، والشاطبيِّ في المُوَافَقَاتِ.
قال الإمامُ ابنُ القيمِ: «لمَّا كانتِ المقاصدُ لا يُتَوَصَّلُ إليها إلا بأسبابٍ وَطُرُقٍ تُفْضِي إليها كانت طُرُقُهَا وأسبابُها تابعةً مُعْتَبَرَةً بها، فوسائلُ المحرماتِ والمعاصِي في كراهتِها والمنعُ منها بحسبِ إفضائِها إلى غاياتِها وارتباطِها بها، ووسائلُ الطاعاتِ والقرباتِ في محبتِها وَالإِذْنِ فيها بحسبِ إفضائِها إلى غاياتِها، فوسيلةُ المقصودِ تابعةٌ للمقصودِ، وَكِلَاهُمَا مقصودٌ، لكنه مقصودٌ قَصْدَ الغاياتِ، وهي مقصودةٌ قصدَ الوسائلِ»(4).  

 وقال الشاطبيُّ رحمه الله: «وقد تَقَرَّرَ أَنَّ الوسائلَ من حيثُ هي وسائلُ غيرُ مقصودةٍ لأَنْفُسِهَا، وإنما هي تَبَعٌ للمقاصدِ بحيثُ لو سَقَطَتِ المقاصدُ سَقَطَتِ الوسائلُ، وبحيثُ لو تُوُصِّلَ إلى المقاصدِ دونَها لم يُتَوَسَّلْ بها، وبحيث لو فَرَضْنَا عدمَ المقاصدِ جملةً لم يكن للوسائلِ اعتبارٌ، بل كانت تكونُ كالعَبَثِ، وإذا ثَبَتَ هذا فالأعمالُ المشروعةُ إذا عُمِلَتْ للتوصلِ بها إلى حظوظِ النفوسِ، فقد صارت غيرَ مُتَعَبَّدٍ بها إلا من حيثُ الحَظُّ، فالحظُّ هو المقصودُ بالعملِ لا التعبدِ، فَأَشْبَهَتِ العملَ بالرياءِ لأجلِ حظوظِ الدنيا من الرياسةِ والجاهِ والمالِ، وَمَا أَشْبَهَ ذلك...» إلخ(5).
وإذا تَنَوَّعَتِ الوسائلُ وَتَعَدَّدَتْ وكانت كُلُّهَا مفضيةً إلى مقصدٍ واحدٍ، فإن الحكمَ في هذه الحالةِ أن الشريعةَ تُعْتَبَرُ في التكليفِ أَقْوَى هذه الوسائلِ تحصيلاً للمقصودِ، ومعنَى هذا أن الوسيلةَ الأقوى تُقَدَّمُ على غيرِها من الوسائلِ، هذا إذا تَفَاوَتَتِ الوسائلُ قوةً وَضَعْفًا.

أما إذا تَعَدَّدَتِ الوسائلُ وَتَسَاوَتْ وَأَفْضَتْ إلى مقصودٍ واحدٍ فلا شَكَّ أنها تَتَسَاوَى في نَظَرِ الشارعِ الحكيمِ بالنسبةِ إلى اعْتِبَارِهَا.
مثالُ هذا: قولُه تعالى: ﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ [النساء: 15].
فهذا خطابٌ عَامٌّ مقصودٌ به وقوعُ هذا العقابِ، قد يقومُ به وَلِيُّ أمرِ المرأةِ أو زَوْجُهَا أو القاضِي، لا فَرْقَ بينَ هذه الحالاتِ؛ لأنها متساويةٌ قوةً وَضَعْفًا في تحصيلِ المقصودِ، ألا وهو حَبْسُ المرأةِ.

ومعنَى هذا أن الوسيلةَ إذا لم تَتَعَيَّنْ لتحصيلِ المقصودِ -بمعنَى أنها تَعَدَّدَتْ وَتَنَوَّعَتْ- فإن الأخذَ بأيةِ وسيلةٍ جائزٌ، أما إذا تَعَيَّنَتِ الوسيلةُ بحيثُ لا يتحققُ المقصودُ إلا بها وَحْدَهَا فلا شَكَّ في وجوبِ الأخذِ بها في الواجبِ وَنَدْبِهِ في المندوبِ وهكذا.

وإليكَ بعضَ القواعدِ التي تَفَرَّعَتْ عن هذه القاعدةِ:

1- مَا لاَ يَتِمُّ الواجبُ إلا به فهو وَاجِبٌ، وَمَا لَا يَتِمُّ المندوبُ إلا به فهو مَنْدُوبٌ... وهكذا. وهي مِنْ أَشْهَرِ القواعدِ الأصوليةِ.
2- يُغْتَفَرُ في الوسائلِ ما لا يُغْتَفَرُ في المقاصدِ(6). 
فَكَمَا سَلَفَ فإنها أَقَلُّ منها في الرتبةِ؛ لذلك اغْتُفِرَ فيها ما لا يُغْتَفَرُ في المقصودِ لِذَاتِهِ. وكما أنهما لا يَسْتَوِيَانِ في الرتبةِ فكذلك لا يستويانِ في الأَجْرِ؛ فإن الشرعَ يُثِيبُ على الوسائلِ إلى الطاعاتِ كما يُثِيبُ على المقاصدِ مع تفاوتِ أجورِ الوسائلِ والمقاصدِ(7). 
3- الوسائلُ تابعةٌ للمقاصدِ، وليست هي المقصودةَ. 
4- الوسائلُ تدورُ مع الأحكامِ التكليفيةِ الخمسةِ، فقد تكونُ واجبةً أو مندوبةً، أو مُحَرَّمَةً، أو مكروهةً، أو مُبَاحَةً، كُلُّ ذلك على حَسَبِ المقاصدِ التي هي -أي: الوسائل- تَابِعَةٌ لها. 

                                            * * *

                   لاسْتِطَاعَةُ بِهَا تَعَلَّقَا وُجُوبُ مَا بِهِ أُمِرْنَا مُطْلَقَا

هذا البيتُ تقريرٌ لقاعدةِ: (الوجوبُ يَتَعَلَّقُ بالاستطاعةِ؛ فَلَا وَاجِبَ مَعَ العَجْزِ). 
والمرادُ أن اللهَ تعالى لم يُوجِبْ علينا عندَ العجزِ شَيْئًا، فقدرةُ المرءِ واستطاعتُه شرطٌ في وجوبِ سائرِ ما أَوْجَبَهُ اللهُ تعالى على العبدِ، بحيثُ يسقطُ عنه الواجبُ عندَ العَجْزِ. 
المعنَى اللُّغويُّ لمصطلحِ الاستطاعةِ: الاستطاعةُ اسْتِفْعَالٌ من الطَّاعَةِ؛ فَسُمِّيَ الفاعلُ مُسْتَطِيعًا؛ لأن الفعلَ الذي يرُومُهُ مُمْكِنٌ مُطَاوِعٌ، وَتَسْمِيَتُهُ بذلك قبلَ الفعلِ على سبيلِ المجازِ، لأنَّ الاستطاعةَ من العبادِ لا تكونُ إلا مع الفعلِ( ). 
وجاءَ في لسانِ العربِ: «قال الجوهريُّ: الاستطاعةُ الطاقةُ. قال ابنُ بَرِّيٍّ: هو كما ذُكِرَ، إلا أنَّ الاستطاعةَ للإنسانِ خاصةً، وَالطَّاقَة عَامَّةٌ؛ تقول: الجملُ مُطِيقٌ لحِمْلِهِ. ولا تقول: مُسْتَطِيعٌ. فهذا الفرقُ ما بينَهما، والاستطاعةُ: القدرةُ على الشيءِ، وهي استفعالٌ من الطاعةِ»( ).

 المعنَى الاصطلاحيُّ للاستطاعةِ: عَرَّفَهَا بعضُ العلماءِ المعاصرينَ بقوله: «قدرةٌ يَتَمَكَّنُ بها المُكَلَّفُ من الإتيانِ بالتكاليفِ الشرعيةِ وَفْقًا لما رَسَمَهُ الشارعُ، بحيثُ يُؤَدِّي عدمُ وجودِها إلى سقوطِ التكليفِ أو إِبْدَالِهِ»( ).

معنَى الاستطاعةِ في القرآنِ والسُّنَّةِ: هذا وقد وَرَدَتْ مادةُ الاستطاعةِ في مواضعَ كثيرةٍ من القرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ المشرفةِ، وكلُّها لا تخرجُ عن المدلولِ اللغويِّ الذي ذَكَرْنَاهُ.

 فعلى سبيلِ المثالِ من القرآنِ الكريمِ: 

1- قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ [البقرة: 282].
قال الإمامُ ابنُ جريرٍ الطبريُّ: «إِنَّ الموصوفَ بأنه لا يستطيعُ أن يُمِلَّ، هو الممنوعُ من إِمْلَالِهِ، إما بالحبسِ الذي لا يَقْدِرُ معه على حضورِ الكاتبِ الذي يكتبُ الكتابَ فَيُمِلّ عليه، وإما لغيبتِه عن موضعِ الإملالِ، فهو غيرُ قادرٍ من أجلِ غيبتِه عن إملالِ الكتابِ؛ فَوَضَعَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ عنهم فرضَ إملالِ ذلك، لِلْعِلَلِ التي وَصَفْنَا -إذا كانت بهم- وَعَذَرَهُمْ بِتَرْكِ الإملالِ من أَجْلِهَا، وَأَمَرَ عندَ سقوطِ فرضِ ذلك عليهم، وَلِيَّ الحَقِّ بِإِمْلَالِهِ»( ). 

2- قال اللهُ تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [النساء: 25].
قال الطبريُّ: «مَنْ لَمْ يَقْدِرْ على نكاحِ الحُرَّةِ لعدمِ الطَّوْلِ، الذي هو الفضلُ والمالُ والسعةُ؛ فَلْيَنْكِحِ الأَمَةَ»( ).
وقال ابنُ العربيِّ: «إن الآيةَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الإبدالِ؛ لأنَّ اللهَ قَرَنَ النكاحَ بالقدرةِ التي رَتَّبَ عليها الإبدالَ، ومعناه أنه مَنْ لَمْ يَقْدِرْ أن يطأَ الحرةَ فَلْيَتَزَوَّجْ أَمَةً»( )

3- قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: 139].
قال الطبريُّ: «لَنْ تُطِيقُوا أيها الرجالُ أن تَعْدِلُوا بينَ نسائِكم في حُبِّهِنَّ بقلوبِكم حتى تَعْدِلُوا بَيْنَهُنَّ»( ).

4- قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وقال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286] أي: لا يُكَلِّفُ أحدًا فوقَ طَاقَتِهِ، وهذا من لُطْفِهِ تعالى بِخَلْقِهِ، وَرَأْفَتِهِ بهم، وإحسانِه إليهم( ). 
قال تعالى: ﴿وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة: 286] قال اللهُ في الحديثِ القدسيِّ: «قَدْ فَعَلْتُ»( ). 

 وأما عن معنَى الاستطاعةِ في السُّنَّةِ:
 1- لمَّا نَزَلَ قولُ الله تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97]
رُوِيَ عن أبي هريرةَ رضي الله تعالى عنه قال: خَطَبَنَا رسولُ الله ﷺ فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا» فقال رجلٌ: أَكُلَّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟! فَسَكَتَ: حتى قَالَهَا ثلاثًا.
فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلمَا اسْتَطَعْتُمْ». ثم قال: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَدَعُوهُ»( ).

 2- عن أبي رَزين العقيليِّ أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيعُ الحجَّ ولا العمرةَ ولا الظعنَ. فقال: «احْجُجْ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ»( ).

3- روى البخاريُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ
عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»( ).

العلاقةُ بينَ الاستطاعةِ والتكليفِ عندَ الفقهاءِ والأصوليينَ:

إن المتأملَ المستقرئَ لكتبِ الفقهِ والأصولِ المعتمدَة، يرى أن الفقهاءَ قد تَنَاوَلُوا كثيرًا قضيةَ الاستطاعةِ باعتبارِها شَرْطًا رئيسًا في التكاليفِ الشرعيةِ بوجهٍ عَامٍّ، والمتتبعُ لكلامِ الفقهاءِ والأصوليينَ في هذا الشأنِ يَرَى أنهم تارةً يُعَبِّرُونَ عن هذا المفهومِ بلفظِه المشهورِ وهو «الاستطاعةُ» وتارةً لا يُعَبِّرُونَ بهذا اللفظِ وإنما يعبرونَ بألفاظٍ أخرى مرادفةٍ تحملُ نفسَ المَعْنَى وتدورُ عليه مثلَ القدرةِ والطاقةِ وغيرِهما، وإليكَ ما يدلُّ على هذا بِاخْتِصَارٍ:

أولًا: المذهبُ الحنفيُّ: قال ابن نجيم في البحر الرائق: «إن كان مريضًا لَا يَقْدِرُ على الِاسْتِقْبَالِ، أو كان في فِرَاشِهِ نَجَاسَةٌ وَلَا يَقْدِرُ على التَّحَوُّلِ منه، وَوَجَدَ مَنْ يُحَوِّلُهُ وَيُوَجِّهُهُ، لَا يُفْتَرَضُ عليه ذلك عِنْدَهُ -أَيْ عندَ أَبِي حنيفةَ- وَعَلَى هذا الْأَعْمَى إذَا وَجَدَ قَائِدًا لَا تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ وَالْحَجُّ.

 وَالْخِلَافُ فِيهِمَا مَعْرُوفٌ؛ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَهُ -أَيْ: أبي حنيفةَ- لَا يُعْتَبَرُ الْمُكَلَّفُ قادرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُعَدُّ قَادِرًا إذَا اخْتَصَّ بِحَالَةٍ يَتَهَيَّأُ له الْفِعْلُ مَتَى أَرَادَ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ... وَعِنْدَهُمَا- أي: عندَ أَبِي يوسفَ وَمُحَمَّدٍ - تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ بِآلَةِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ آلَةَ الْغَيْرِ صَارَتْ كَآلَتِهِ بِالْإِعَانَةِ»( ).

 ثَانِيًا عندَ المالكيةِ: جاءَ في حاشيةِ الدسوقيِّ: «أو خَافَ مَرِيدُ الصَّلَاةِ الذي معه المَاءُ؛ أَيْ: وَيَقْدِرُ على اسْتِعْمَالِهِ سَوَاءٌ كان حَاضِرًا صَحِيحًا أو مَرِيضًا أو مُسَافِرًا عَطشَ مُحْتَرَمٍ، ومِثْلُ الْعَطَشِ ضَرُورَةُ الْعَجْنِ وَالطَّبْخِ...تَيَمَّمَ»( ).

 ثالثًا عندَ الشافعيةِ: قال البيجوريُّ: «القدرةُ على الصومِ شرطٌ للوجوبِ، معنَى القدرةِ على الصومِ إطاقتُه؛ فَمَنْ لا يُطِيقُهُ حِسًّا كالمريضِ ونحوِه، أو شَرْعًا كالحائضِ والنفساءِ؛ لا يجبُ عليهِ الصومُ»( ).

رابعًا عندَ الحنابلةِ: قال البهوتيُّ: «(وإذا وَجَدَ الأقطعَ ونحوَه) كالأشلِّ والمريضِ الذي لا يَقْدِرُ أن يُوَضِّئَ نفسَه (مَنْ يُوَضِّئُهُ أو يغسلُه بأجرةِ المثلِ وَقَدَرَ عليها من غيرِ إِضْرَارٍ) بنفسِه أو مَنْ تَلْزَمُهُ نفقتُه (لَزِمَهُ ذلك)؛ لأنه في معنَى الصحيحِ (فإن وَجَدَ مَنْ يُيَمِّمُهُ ولم يَجِدْ مَنْ يُوَضِّئُهُ لَزِمَهُ ذلك) كالصحيحِ يقدرُ على التيممِ دونَ الوضوءِ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) مَنْ يُوَضِّئُهُ ولا مَنْ يُيَمِّمُهُ بأن عجز عن الأجرةِ أو لم يَقْدِرْ على مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ  (صَلَّى على حَسَبِ حالِه) قال في المُغْنِي: لا أعلمُ فيه خلافًا»( ).

 الاستطاعةُ وأهميتُها عندَ الأصوليينَ:

يرى الشاطبيُّ - رحمه الله - أن شرطَ التكليفِ أو سَبَبَهُ القدرةُ على المُكَلَّفِ به، فما لا قدرةَ عليه؛ فلا يصحُّ التكليفُ به شَرْعًا( ). 

وفي كشفِ الأسرارِ لفخرِ الإسلامِ البزدويِّ (1/282): «الشيءُ الذي صَارَ الحَسَنَ لِعَيْنِهِ حَسَنًا لغيرِه بواسطتِه هي القدرةُ التي يَتَمَكَّنُ بها العبدُ من أداءِ ما لَزِمَهُ أي: يَقْدِرُ عليه, وذلك أي الشرطُ المذكورُ وهو القدرةُ, شرطُ الأداءِ أي شرطُ وجوبِ الأداءِ»( ).
وقال الزركشيُّ في البحرِ المحيطِ: «اعلم أنَّ الأُصُولِيِّينَ من الأشعرِيَّةِ والمُعتزِلةِ مُتّفِقُونَ على أَنَّ المأمُورَ بِالفِعلِ على وجهِ الِامتِثالِ إِنَّما يكُونُ مأمُورًا عِندَ القُدرةِ والِاستِطاعةِ »( )، ( ). 

وهذا يَدُلُّ على أن هذه القاعدةَ مَنَاطُهَا في المأمورِ به دونَ المنهيِّ عنه؛ إِذِ المنهيُّ عنه تَرْكٌ، والتركُ لا يحتاجُ إلى استطاعةٍ، وَاعْلَمْ أن الاستطاعةَ: استطاعةٌ مع الفعلِ، واستطاعةٌ قَبْلَ الفعلِ. 

 وكلامُنا هنا عن الثانيةِ فهي التي يتعلقُ بها الخطابُ، قال الطحاويُّ: «والاستطاعةُ التي يجبُ بها الفعلُ، مِنْ نحوِ التوفيقِ الذي لا يجوزُ أن يُوصفَ المخلوقُ به، فهي مع الفعلِ، وأما الاستطاعةُ من جهةِ الصحةِ والوُسْعِ، والتمكنِ وسلامةِ الآلاتِ، فهي قَبْلَ الفعلِ، وبها يتعلقُ الخطابُ، وهو كما قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]. اهـ( ).

وَاعْلَمْ أن هذه القاعدةَ يتفرعُ عليها – كما قال الشيخُ السعديُّ رحمه الله – أنه لا واجبَ مع العجزِ، ولا مُحَرَّمَ مع الضرورةِ( ).
فإذا عجز المرءُ عن فعلِ الواجبِ سَقَطَ عنه، وإذا اضْطُرَّ إلى المحرمِ -أي: عجز عن عدمِ إتيانِه لضرورتِه حَلَّتْ به- لم يكن في حَقِّهِ مُحَرَّمًا، لَكِنْ بِالْقَدْرِ الذي تزولُ به الضرورةُ قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 173].

                                                  * * *

           مَبْنَى الشَّرِيعَةِ عَلَى أَصْلَيْـنِ أَنْ تُخْلِـصَ للهِ وَتَتْبَـعَ السُّنَـنْ

هذه القاعدةُ هي خُلاصةُ الإسلامِ، وَمُقْتَضَى الشهادتينِ، وهي أن شريعةَ الإسلامِ مبنيةٌ على أَصْلَيْنِ:
1 – إخلاصُ الدينِ لله تعالى. 
2 – ومتابعةُ الرسولِ ﷺ. 
وهذه القاعدةُ لا يخرجُ عنها شيءٌ من دِينِ الله تعالى. 
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 11]،
وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ [النساء: 64]
.

وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ  فَهُوَ رَدٌّ» ( ). 
وقال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]. 
قال ابنُ كثيرٍ: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ﴾ أَيْ: ثَوَابَهُ وجزاءَه الصالحَ ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾. 
وهو: ما كان مُوَافِقًا لشرعِ اللهِ: ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ وهو الذي يُراد به وجهُ اللهِ وحدَه لا شريكَ له، وهذانِ رُكْنَا العملِ المُتَقَبَّلِ، لا بد أن يكونَ خالصًا لله، صَوَابًا على شريعةِ رسولِ اللهِ ﷺ. اهـ( ). 
قال شيخُ الإسلامِ: «الإسلامُ مَبْنِيٌّ على أَصْلَيْنِ: 
أحدُهما: أن نعبدَ اللهَ وحدَه لَا شريكَ له.
والثاني: أن نعبدَه بما شَرَعَهُ على لسانِ رسولِه ﷺ لا نعبدُه بالأهواءِ والبِدَعِ،
قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن
يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئًا﴾ [الجاثية: 18 - 19]، وقال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ
مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: 21]( )

                                            * * *

             وَالْعَقْلُ وَالحُلْمُ هُمَا التَّكْلِيفُ وَلَمْ يَجِبْ بِدُونِ ذَا تَكْلِيف

     والرُّشْدُ وَالتَّكْلِيفُ لِلتَّصَرُّفَـاتْ شَرْطٌ وَزِيدَ المِلْكُ لِلتَّبَرُّعَاتْ

             واشْتُرِطَ التَّمْييزُ لِلْعِبَادَةِ        صَحَّا سِوَى الحَجِّ لَنَا وَالعُمْرَةِ

           حَتْمُ التَّرَاضِي فِي المُعَاوَضَاتِ وَفِـي الفُسُـوخِ وَالتَّبَرُّعَاتِ

هذه الأبياتُ تتعلقُ بالقاعدةِ التي نَصَّ عليها الشيخُ السعديُّ رحمه الله بقوله: «التكليفُ –وهو
البلوغُ والعقلُ- شرطٌ لوجوبِ العباداتِ. والتمييزُ شرطٌ لصحتِها إلا الحجَّ والعمرةَ. وَيُشْتَرَطُ لصحةِ التصرفِ التكليفُ والرشدُ، ولصحةِ التبرعِ التكليفُ والرُّشدُ والِملكُ».

وفي النظم تبيين ماهية التكليفِ وشروطه، وهي:

                   وَالْعَقْلُ وَالحُلْمُ هُمَا التَّكْلِيفُ وَلَمْ يَجِبْ بِدُونِ ذَا تَكْلِيفُ

 لقد اشْتَمَلَ هذا البيتُ على اصطلاحاتٍ ثلاثٍ ينبغي إيضاحُها، وهي: التكليفُ، والعقلُ، والحُلمُ. والأولُ مشروطٌ، والثانِي والثالثُ شرطانِ يتحققُ بهما المشروطُ.
أما الأولُ وهو التكليفُ فمعناه اللغويُّ مأخوذٌ من الكُلفةِ بمعنَى المشقةِ؛ يُقال: كَلَّفَهُ تَكْلِيفًا؛ أَيْ: أَمَرَهُ بما يَشُقُّ عليه، وَتَكَلَّفْتَ الشيءَ: تَجَشَّمْتهُ على مشقةٍ وعلى خلافِ عادتك( ). 
والمكلَّفُ هو المُخَاطَبُ بالتكاليفِ الشرعيةِ من الأوامرِ والنواهِي، وهي التي يترتبُ عليها الثوابُ أو العقابُ.
والمكلفُ: هو البالغُ العاقلُ، ووُصِفَ بذلك لِلُزُومِ العباداتِ له، والعباداتُ نوعُ إلزامٍ وتكليفٍ، وإن كان ليس فيها مشقةٌ، لكن الإنسانَ مُلْزَمٌ بها( ). 
أما تعريفُه اصطلاحًا: فهناك اتجاهانِ مشهورانِ بينَ الأصوليينَ في ماهيةِ التكليفِ؛ هل هو إلزامٌ أو طَلَبٌ؟
فَمَنْ عَرَّفَهُ بالإلزامِ قال: إلزامُ ما فيه كلفةٌ ومشقةٌ. ويترتبُ على ذلك أن كلًّا من المباحِ والمندوبِ
والمكروهِ ليس من التكليفِ؛ لأنه لا إلزامَ في شيء منها.

وَمَنْ عَرَّفَهُ بأنه طلبُ ما فيه كلفةٌ ومشقةٌ، أَخْرَجَ المباحَ من بابِ التكليفِ؛ لأنه لا طَلَبَ فيه، على أن بعضَ الأصوليينَ يرى أن المباحَ يدخلُ في بابِ التكليفِ؛ لأنه يُكْمِلُ القسمةَ العقليةَ للأحكامِ الشرعيةِ، وكذلك لأنه يجبُ اعتقادُ مشروعيتِه فَاعْتُبِرَ هذا الوجوبُ تكليفًا( ).

ولا يبنى على ذلك فرع، قال في المراقي  :

            قد كُلِّفَ الصَّبِي على الذي اعتُمِي    بغير ما وجب والمُحَرَّمِ

            وَهُوَ إِلْزَامُ الَّذِي يَشُقُّ             أَوْ طَلَب فَاه بِكُلِّ خَلْقِ

                لَكِنَّهُ لَيْسَ يُفِيدُ فَرْعَا              فَلَا تَضِقْ لِفَقْدِ فَرْعٍ ذَرْعَا

 وفي النظم إشارة -تَبَعًا للأصلِ- أنَّ التكليفَ يشترطُ فيه شرطانِ: العقلُ وبلوغُ الحُلمِ.
ما الشرطُ الأولُ وهو العقلُ، فقد اختلف العلماءُ في تعريفِه وماهيتِه؛ على أقوال( ):
1- قال بعضُهم: «إنه قوةٌ طبيعيةٌ يُفْصَلُ بها بينَ حقائقِ المعلوماتِ».
2- وقال بعضُهم: «هو جوهرٌ لطيفٌ يُفْصَلُ به بينَ حقائقِ المعلوماتِ الضروريةِ».
3- وقال بعضُهم وهو القاضِي البَاقِلَّانِيُّ: «إنه نفسُ العلومِ الضروريةِ» كالعلمِ باستحالةِ اجتماعِ الضِّدَّيْنِ، وكالعلمِ بأنَّ المعلومَ لا يخرجُ عن كونِه مَعْدُومًا أو موجودًا، وأنَّ الموجودَ لا يَخْلُو عن الاتصافِ بالقِدَمِ أو الحُدُوثِ.
وينقسمُ العقلُ إلى قِسْمَيْنِ( ):

1-عقلٌ مطبوعٌ، ويسمَّى جِبِلِّيًّا أو غَرِيزِيًّا، وهو مجموعةُ العلومِ الضروريةِ التي تُمَيِّزُ الإنسانَ عن غيرِه من أنواعِ الحيواناتِ، ونستطيعُ أن نقولَ: إنه العقلُ الذي وُلِدَ به الإنسانُ، وهذا العقلُ هو مناطُ التكليفِ.

 2-عقلٌ مسموعٌ، وَيُسَمَّى كَسْبِيًّا، وهو مجموعةُ العلومِ والمعارفِ التي اكْتَسَبَهَا الإنسانُ أثناءَ حياتِه، سواءً أكانت علومَه التي اكتسبها من علومِ الدينِ كعلومِ القرآنِ والتفسيرِ والحديثِ والفقهِ وأصولِه، أو من علومِ الدنيا كالطِّبِّ والفَلَكِ والكيمياءِ والرياضياتِ وغيرِها؛ فَكُلُّهَا علومٌ اكتسبها الإنسانُ وَتَعَلَّمَهَا من غيرِه، وهي ليست مناطَ التكليفِ، وإن كان الإنسانُ مُحَاسَبًا عليه بالثوابِ إن أَخْلَصَ وَأَنْفَقَهُ في سبيلِ الله تعالى، أو العقابِ إن طَلَبَهُ رياءً وسمعةً أو اسْتَخْدَمَهُ فيما لا يُرْضِي اللهَ سبحانه وتعالى، وهذا واضحٌ لا يحتاجُ إلى تفصيلِ الأدلةِ فيه. 
وعلى ذلك فالناسُ لا يتفاضلونَ في العقلِ الأولِ أي ما به التكليفُ، وَيَتَفَاوَتُونَ في العقلِ الثانِي؛ بناءً على توفيقِ اللهِ تعالى لعبادِه، ثم كثرةِ تجاربِهم واجتهادِهم في شتَّى العلومِ والمعارفِ.
قال شيخ الإسلام في در التعارض: ويراد بالعقل: الغريزة، فهنا يكون أحدهما غير الآخر، ولا ريب أن مسمى العلم بهذا الاعتبار أشْرَفُ مِنْ مُسَمَّى العقل؛ فإن مسمى العلم هنا كلام الله تعالى، وكلام الله أشرف مِنَ الغَرِيزَة التي يشترك فيها المسلم والكافر، وأيضًا فقد تسمى العلوم المسموعة عقلًا، كما قيل:

 

     رَأَيْتُ العَقْلَ عَقْلَيْنِ فَمَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعُ

 

 

      فَلَا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ إِذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ

 

     كَمَا لَا تَنْفَعُ الْعَيْنُ وَضَوْءُ الشَّمْسِ مَمْنُوعُ( )

 أما الشرطُ الثاني وهو الحُلمُ، فالمرادُ به البلوغُ، والبلوغُ لغةً: الوصولُ، يقال: بَلَغَ الشيءُ يَبْلُغُ بلوغًا وَبَلَاغًا: وَصَلَ وَانْتَهَى، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ: احْتَلَمَ وَأَدْرَكَ وقتَ التكليفِ، وكذلك بَلَغَتِ الفتاةُ( ).
واصطلاحًا: انتهاءُ حدِّ الصِّغَرِ في الإنسانِ؛ ليكونَ أَهْلًا للتكاليفِ الشرعيةِ.
وعلى هذا فمعنَى قوله: «فالعقلُ والحلمُ هما التكليفُ» أَيْ: هُمَا شَرْطَا التكليفِ بالأوامرِ والنواهِي الشرعيةِ؛ فيخرجُ المجنونُ والصغيرُ، فلا يُطَالَبَانِ بالأحكامِ الشرعيةِ ابتداءً ولا يعاقبانِ على تَرْكِهَا انتهاءً. 

                                 * * *

والرُّشْدُ وَالتَّكْلِيفُ لِلتَّصَرُّفَاتْ شَرْطٌ وَزِيدَ المِلْكُ لِلتَّبَرُّعَاتْ

في البيتِ السابقِ كان الكلامُ عن التكليفِ وَشَرْطَيْهِ، وهنا الكلامُ عن أمرينِ

الأولُ: صحةُ التصرفاتِ الماليةِ يُشْتَرَطُ لها مع التكليفِ الرشدُ. 

الثاني: صحةُ التبرعاتِ يُشْتَرَطُ لها مع التكليفِ الرشدُ والمِلْكُ. 

أما الأولُ: فينبغي أولًا معرفةُ حدِّ الرُّشدِ وحقيقتِه، فالرُّشْدُ فِي اللُّغَةِ: الصَّلاحُ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ وَالاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ، وَهُوَ خِلافُ الْغَيِّ وَالضَّلالِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: رَشِدَ رُشْدًا مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَرَشَدَ يَرْشُدُ مِنْ بَابِ قَتَلَ، فَهُوَ رَاشِدٌ، وَالاسْمُ الرَّشَادُ( ).

وحقيقتُه في اصطلاحِ الفقهاءِ قريبٌ من هذا المعنَى؛ فهو ضدُّ السَّفَهِ والتبذيرِ وعدمِ القدرةِ على تمييزِ ما ينفعُ وما يضرُّ في التصرفاتِ الماليةِ.

قال ابن رشد: حدُّه حُسْنُ النظرِ في المالِ وَوَضْعُ الأمورِ في مواضعها( ).

هذا وقد تَفَرَّقَتْ أحكامُ الرُّشدِ في أبوابٍ كثيرةٍ من الفقهِ الإسلاميِّ؛ كالحَجْرِ على السَّفيهِ ثم الْبَيْعِ، والشَّرِكَةِ، والْوَكَالَةِ، وَالضَمَانِ، والإعارةِ، وَالإِقْرَارِ، والْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ، وولايةِ النِّكَاحِ، وَفِي رِضَا الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ، وَفِي الْخُلْعِ، وفِي شُرُوطِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِلِ، وَفِي حَاضِنِ اللَّقِيطِ.

وأغلبُها أمورٌ تتعلقُ بالتصرفاتِ الماليةِ.

وقد بَحَثَ العلماءُ في عدةِ قضايا تتعلقُ بالرشدِ؛ أولُها السنُّ المُعْتَبَرُ في الرشدِ، والأمورُ أو الصفاتُ التي يكونُ بها الإنسانُ رشيدًا، وكذلك الأحكامُ المترتبةُ على فَقْدِ الإنسانِ لصفةِ الرُّشدِ في التصرفاتِ.

أما عن السنِّ المُعْتَبَرِ في الرُّشد؛ فيرى الجمهورُ من الفقهاء( ) عدا أبي حنيفةَ أنَّ الرُّشْدَ المُعْتَبَرَ في التصرفات لا بد أن يكونَ بعدَ بلوغِ الصبيِّ، وَرَتَّبُوا على ذلك أنَّ دفعَ المالِ لليتيمِ الرشيدِ لا يكونُ إلا بعدَ البلوغِ، واستدلوا بقولِه تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 5]، مع قولِه تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6]. 

فَاشْتَرَطَ الحقُّ سبحانَه لدفعِ المالِ إلى اليتيمِ شَرْطَيْنِ: إيناسُ الرشدِ، والبلوغُ، فإن وُجِدَ أحدُهما دونَ الآخَرِ لم يَجُزْ تسليمُ المالِ، كما نَصَّتِ الآيةُ( ).

 ويرى الإمامُ أبو حنيفةَ( ): أنه إذا بلغَ الغُلامُ غيرَ رشِيدٍ لم يُسلَّمْ إليهِ مالُهُ حتَّى يبلُغ خمسًا وعِشرِين سنةً، فإِن تصرَّف فِيهِ قبل ذلِك نَفَذَ تصرُّفُهُ، فإِذا بَلَغَ خمسًا وعِشْرِينَ سنةً يُسلَّمُ إليهِ مالُهُ وإِن لم يُؤنس مِنهُ الرُّشدُ.

 واستدل الإمامُ أبو حنيفةَ بالإطلاقِ الواردِ في قولِه تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 2].

 

 وَالْمُرَادُ منه بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلِأَنَّ حَالَ الْبُلُوغِ قد لَا يُفَارِقُهُ السَّفَهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَاءِ، فَقَدَّرهُ أبو حنيفةَ رحمه الله بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ لما رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قال: «يَنْتَهِي لُبُّ الرَّجُلِ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً» وقد قال أَهْلُ الطَّبَائِعِ: «إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ». 

 وعلى ذلك فإذا فُقِدَ الرشدُ -وهو حُسْنُ التصرفِ في المالِ، والقدرةُ على تدبيرِه، وعدمُ الإسرافِ فيه وتبذيره- استحقَّ الإنسانُ بذلك الحَجْرَ عليه والمنعَ من التصرفاتِ الماليةِ؛ لأنه بفقدانِ الرشدِ صَارَ غيرَ مُؤَهَّلٍ للتصرفِ الماليِّ.

 

 وتقييدُ الرشدِ بالقدرةِ على الحفاظِ على المالِ وإصلاحِه دونَ الدّينِ هو مذهبُ الجمهورِ؛ المالكيةِ والحنابلةِ والأحنافِ، بينما يرى الشافعيُّ أن الرُّشْدَ هو الصلاحُ في الدينِ والمالِ معًا. ويَدُلّ لِقَوْلِ الجُمْهور أنَّ العدالةَ لا تُعْتَبَرُ في الرشدِ في الدوامِ فلا تعتبرُ في الابتداءِ، ولأنَّ هذا مُصْلِحٌ لماله فأشبهَ العدلَ، ولأنَّ الحَجْرَ إنما يكونُ لحِفْظِ مالِه عليه، لا لِقِلَّةِ دِينِهِ فيه، فالمؤثرُ فيه ما أَثَّرَ في تضييعِ المالِ، أو حفظه، ثم إن قلنا هذا في المسلمِ فماذا نقول في الكافرِ؟ فالمسلمُ -وإن فَسَقَ- يُمكَّنُ من مَالِهِ ما دام فيه رَشِيدًا أَخْذًا وَعَطَاءً( ).

 

 والأمرُ الثانِي: التبرعاتُ الماليةُ؛ يُشْتَرَطُ لها مع التكليفِ والرشدِ المِلْكُ؛ فَفَاقِدُ الشيءِ لا يُعْطِيهِ، ومعلومٌ أنَّ التبرعَ عطاءٌ بدونِ مُقَابِلٍ، ونفقةٌ من غيرِ عَائِدٍ؛ لِذَا لَزِمَ فاعلَها أن يكونَ مالكًا لها رشيدًا في أَدَائِهَا حتى يَعْتَبِرَهَا الشرعُ وَيَقْبَلَهَا.

 

 وَلِذَا سُئِلَ أبو هريرةَ في المرأةِ تَصَدَّقُ من بيتِ زوجِها؟ قال: لا، إلا من قُوتِهَا، والأَجْرُ بينَهما، ولا يَحِلُّ لها أن تَصَدَّقَ من مالِ زَوْجِهَا إلا بإذنه( ).

 

 قال الإمامُ النوويُّ: «وَاعْلَمْ أنه لا بُد للعاملِ وهو الخازنُ وللزوجةِ والمملوكِ من إِذْنِ المالكِ في ذلك، فإن لم يكن أَذِنَ أَصْلًا فلا أجرَ لأحدٍ من هؤلاء الثلاثةِ، بل عليهم وِزْرٌ بتصرفِهم في مالِ غيرِهم بغيرِ إِذْنِهِ، والإِذْنُ ضَرْبَانِ:

أحدُهما: الإذنُ الصريحُ في النفقةِ والصَّدَقَةِ.

 والثاني: الإذنُ المفهومُ من اطرادِ العُرْفِ والعادةِ كإعطاءِ السائلِ كسرةً ونحوَها مما جَرَتِ العادةُ به وَاطَّرَدَ العرفُ فيه، وعُلِمَ بالعرفِ رِضَا الزوجِ والمالكِ به، فَإِذْنُهُ في ذلك حاصلٌ وإن لم يَتَكَلَّمْ، وهذا إذا عُلِمَ رِضَاهُ لاطرادِ العرفِ، وَعُلِمَ أن نفسَه كنفوسِ غالبِ الناسِ في السماحةِ بذلك والرِّضَا به، فإن اضطرب العرفُ وَشُكَّ في رضاه أو كان شخصًا يشِحُّ بذلك، وَعُلِمَ من حالِه ذلك، أو شُكَّ فيه، لم يَجُزْ للمرأةِ وغيرِها التصدقُ من مالِه إلا بصريحِ إِذْنِهِ»( ). 

 

 ولا بد من هذا التقريرِ الذي ليس بعدَه مزيدٌ حتى لا يسوءَ فَهْمُكَ لحديثِ رسولِ الله ﷺ: «إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ»( ). 

 

                                                         * * *

 

واشْتُرِطَ التَّمْييزُ لِلْعِبَادَةِ صَحَّا سِوَى الحَجِّ لَنَا وَالعُمْرَةِ

 

 المرادُ من هذه القاعدةِ أن الصبيَّ الذي لم يبلغ وإن كانت لا تجبُ عليه العباداتُ، إلا أنه يُشْتَرَطُ في صحةِ هذه العباداتِ التمييزُ.
فالعباداتُ كالصلاةِ والصيامِ والحجِّ لا تَجِبُ على الصبيِّ بالاتفاقِ، فَإِنْ فَعَلَهَا فإنها لا تُوصَفُ بالصحةِ إلا إذا كان الصبيُّ مُمَيِّزًا.

 

تعريفُ التمييزِ لغةً واصطلاحًا:

التَّمْيِيزُ لُغَةً: مَصْدَرُ مَيَّزَ. يُقَالُ: مَازَ الشَّيْءَ إِذَا عَزَلَهُ وَفَرَزَهُ وَفَصَلَهُ، وَتَمَيَّزَ الْقَوْمُ وَامْتَازُوا: صَارُوا فِي نَاحِيَةٍ. وَامْتَازَ عَنِ الشَّيْءِ تَبَاعَدَ مِنْهُ، وَيُقَالُ: امْتَازَ الْقَوْمُ إِذَا تَمَيَّزَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. 
والفُقهاءُ يقُولُون: سِنُّ التَّميِيزِ، ومُرادُهُم بِذلِك تِلك السِّنُّ الَّتِي إِذا انْتَهَى إِليها الصَّغِيرُ عَرَفَ مَضَارَّهُ وَمَنَافِعَهُ، وَكَأَنَّهُ مأخُوذٌ مِن مَيَّزْتُ الأشياءَ إِذا فرَّقت بين خيرِها وشرِّها بعدَ المعرِفةِ بِها( ).
وهناك أحكامٌ خلافيةٌ كثيرةٌ للصبيِّ المُمَيِّزِ؛ منها صحةُ إسلامِه ابتداءً، وقبولُ شهادتِه، وقبولُ أخبارِه وروايتِه، ومنها صحةُ تَصَرُّفَاتِهِ الماليةِ، وما يحلُّ للمميز النظرُ إليه من المرأةِ الأجنبيةِ، وتخييرُ الصبيِّ المميزِ بين أبيه أو أمه في الحضانةِ، إلى غير ذلك من الأحكامِ التي لا مجالَ لتفصيلِها هنا؛ نظرًا لِبُعْدِهَا عن موضوعِنا هنا ألا وهو اشتراطُ التمييزِ لصحةِ العبادةِ من الصبيِّ، بَيْدَ أنَّ حُكْمًا من الأحكامِ الفقهيةِ للصبيِّ المميزِ نحتاجُ إلى بسطِ القولِ فيه؛ نظرًا لِتَعَلُّقِهِ بقضيةِ العباداتِ؛ ألا وهو صحةُ الإمامةِ من الصبيِّ المميزِ؛ فهل تصحُّ الصلاةُ خلفَه بناءً على أنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ صلاتُه لنفسِه صَحَّتْ صلاتُه لغيرِه كما هو معلومٌ، أو لا تَصِحُّ الصلاةُ خلفَه بناءً على أنه يُتَصَوَّرُ منه وقوعُ الخللِ في الصلاةِ فلا يُؤْتَمَنُ على صلاةِ نفسِه فَضْلاً عن غيرِه؟

 

للعلماءِ في ذلك مَذْهَبَانِ:

 

 المذهبُ الأولُ( ): ذَهَبَ الحنفِيةُ والمالِكِيةُ والحنابِلةُ والأوزاعِيُّ إِلى أن إِمامةَ الصبِيِّ المُميزِ لِلبالِغِ فِي الفرضِ لا تصِحُّ في الفرضِ وتصحُّ في النفلِ؛ لأن الإِمامةَ حالُ كمالٍ، والصبِيُّ ليس مِن أهلِ الكمالِ؛ ولأنهُ لا يُؤْمَنُ مِنهُ الإِخلالُ بِشرطٍ مِن شرائِطِ الصلاةِ. 

 

 المذهبُ الثاني( ): يرى الشافِعِيةُ والحسنُ البصرِيُّ وإِسحاقُ وابنُ المُنذِرِ أن إِمامتَهُ لِلبالِغِ صحِيحةٌ وإن كانت صلاةَ جُمْعَةٍ؛ لِعُمُومِ حديثِ أبي مسعودٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتابِ اللهِ»( ) ولِما رُوِي مِن أن بعضَ الصحابةِ رضِي اللهُ عنهُم كانُوا يؤُمون أقوامَهُم وهُم دُونَ سِنِّ البُلُوغِ - أبناءُ سبعِ سِنِين أو ثمانِي سِنِين - فقد ثَبَتَ أن عمرَو بنَ سلمةَ كان يؤُم قومَه على عهدِ رسُولِ اللهِ ﷺ وهُو ابنُ سِتِّ أو سبعِ سِنِين( ).

 

 وأصحابُ هذا المذهبِ لا يُجَوِّزُونَ إمامةَ الصبيِّ المميزِ إلا إذا كان عَالِمًا بأحكامِ الصلاةِ وما يُبْطِلُهَا مُجِيدًا لقراءةِ القرآنِ الكريمِ وأحكامِ تلاوتِه، ومع ذلك فَهُمْ لا يَسْتَحِبُّونَ ذلك في وجودِ البالغِ القارئِ، ولا يُسَوُّونَ بينَهما بِحَالٍ. 

 

 قال الشافعيُّ رحمه الله: «إِذَا أَمَّ الغُلامُ الذي لم يبلُغ الذي يعقِلُ الصَّلاةَ ويقرأُ الرِّجالَ البالِغِينَ، فإذا أقام الصّلاةَ أجزأتهُم إمامتُهُ، والِاختِيارُ أن لا يؤُمَّ إِلَّا بالِغٌ وأن يكُون الإِمامُ البالِغُ عالِمًا بِما لَعَلَّهُ يعرِضُ له في الصَّلاةِ».

 

 والذي نَخْتَارُهُ المذهبُ الثاني لقوةِ أَدِلَّتِهِ وصحةِ الأحاديثِ التي استدلَّ بها أصحابُ هذا المذهبِ.

 

 واستثنى أهلُ العلمِ من ذلك الحجَّ والعمرةَ، واستثناؤهم هذا مَبْنِيٌّ على دليلٍ وهو حديثُ ابنِ عباسٍ رضي الله تعالى عنهما أن النبيَّ ﷺ لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ، فقال: «مَنِ الْقَوْمُ؟» قالوا: المسلمونَ. فقالوا: مَنْ أَنْتَ؟ قال: «رَسُولُ اللهِ» فَرَفَعَتْ إليه امرأةٌ صَبِيًّا فقالت: أَلِهَذَا حَجٌّ قال: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ» ( ). 

 

قال الإمامُ النوويُّ: فيه حجةٌ للشافعيِّ ومالكٍ وأحمدَ وجماهيرِ العلماءِ أن حجَّ الصبيِّ منعقدٌ صحيحٌ يُثَابُ عليه وإن كان لا يَجْزِيهِ عن حجةِ الإسلامِ، بل يقعُ تَطَوُّعًا، وهذا الحديثُ صريحٌ فيه... قال القاضِي: لا خلافَ بينَ العلماءِ في جوازِ الحجِّ بالصبيانِ، وإنما مَنَعَهُ طائفةٌ من أهلِ البدعِ، ولا يُلْتَفَتُ إلى قولِهم، بل هو مردودٌ بفعلِ النبيِّ ﷺ وأصحابِه وإجماعِ الأُمَّةِ... قال القاضي: «وَأَجْمَعُوا على أنه لا يُجْزِئُهُ إذا بَلَغَ عن فريضةِ الإسلامِ إلا فِرْقَةً شَذَّتْ فقالت: يُجْزِئُهُ، ولم يَلْتَفِتِ العلماءُ إلى قولهِا»( ). 

 

 قلتُ: ودليلُ هذا ما رَوَاهُ الحاكمُ والطبرانيُّ في الأوسطِ وغيرُهما عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بَلَغَ الحِنْثَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ ثُمَّ هَاجَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ عَتَقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى»( ). 

 

                                                               * * *

 

حَتْــمُ التَّرَاضِــي فِي الْمُعَاوَضَــاتِ وَفِـي الفُسوخِ وَالتَّبَرُّعَاتِ

 

قَسَّمَ العلماءُ العقودَ باعتبارِ وجودِ العِوَضِ في العقدِ وعدمِ وجودِه إلى قِسْمَيْنِ:

 

 القسمُ الأولُ: عقودُ المُعَاوَضَةِ، وهي العقودُ التي تشتملُ على عِوَضٍ، كالبيعِ، والسَّلَمِ، والصَّرْفِ، وَالصُّلْحِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالمُضَارَبَةِ، وَالمُزَارَعَةِ، وَالمُسَاقَاةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَنَحْوِهَا.

 

 القسمُ الثاني: عقودُ التبرعاتِ وهي العقودُ التي لا تشتملُ على عِوَضٍ مثلَ: عقدِ الهِبةِ، والعارِيَّةِ، والودِيعةِ، والوكالةِ، والرَّهْنِ، والوصِيَّةِ ونحوِها.

 

 وَالْفَرْقُ بينَ عقودِ المعاوضاتِ والتبرعاتِ فِي أَنَّ الوفاءَ بِما يَتَعَهَّدُهُ العاقِدانِ فِي عُقُودِ المُعاوضةِ كالبيعِ والإِجارةِ ونحوِهِما واجِبٌ، إِذا تَمَّتْ صحِيحة بِشُرُوطِها، عَمَلًا بِقولِهِ تعالى: ﴿أوفُوا بِالعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]؛ لأَنَّ فِي عدمِ الوفاءِ بِها ضررًا لِلعاقِدِ الآخَرِ؛ لِضياعِ ما بَذَلَهُ مِن العِوضِ فِي مُقابلتِهِ، بِخِلافِ عُقُودِ التَّبَرُّعِ، كالهِبةِ، والعارِيَّةِ، وَالقَرْضِ، والوصِيَّةِ، ونحوِها، فلا يجِبُ الوفاءُ فِيها بِما تَعَهَّدَ المُتبرِّعُ؛ لأنّهُ مُحسِنٌ، وما على المُحسِنِين مِن سبِيلٍ، مع تفصِيلٍ فِي مُختلفِ العُقُودِ( ). 

 

 ذلِك فإِنَّ الفُقهاءَ صَرَّحُوا بِاستِحبابِ الوفاءِ فِي عُقُودِ التّبرُّعِ؛ لأَنَّهَا مِن البِرِّ والإِحسانِ، وقد حثَّ الشّارِعُ عليهِما فِي أكثرَ مِن موضِعٍ، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2].

 

 ألا أن ابنَ شبرمةَ - من الفقهاءِ المجتهدينَ - قد أَوْجَبَ الوفاءَ بالعقدِ مُطْلَقًا معاوضةً كان أو تَبَرُّعًا؛ لأن مذهبَه وجوبُ الوفاءِ بالوعدِ ديانةً وقضاءً، وقد نَقَلَ عنه هذا القولَ ابنُ حَزْمٍ في كتابِه المُحَلَّى، في بحثٍ مَاتِعٍ في الخلافِ في قضيةِ الإلزامِ بالوعدِ، أَنْقُلُ لَكَ بَعْضًا منه على أن تُرَاجِعَهُ أخي القارئُ بِتَمَامِهِ من المُحَلَّى؛ فإنه في غايةِ النفاسةِ، قال ابنُ حَزْمٍ رحمه الله:

 

 «وَمَنْ وَعَدَ آخَرَ بأن يُعْطِيَهُ مالًا مُعَيَّنًا أو غيرَ مُعَيَّنٍ، أو بأن يُعِينَهُ في عَمَلٍ ما -حَلَفَ له على ذلك أو لم يَحْلِفْ- لم يَلْزَمْهُ الوفاءُ به، وَيُكْرَهُ له ذلك، وكان الأفضلُ لو وَفَّى به، وسواء أَدْخَلَهُ بذلك في نَفَقَةٍ أو لم يُدْخِلْهُ، كمن قال: تَزَوَّجْ فلانةَ وأنا أُعِينُكَ في صَدَاقِهَا بكذا وكذا، أو نحوِ هذا - وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأبي سليمانَ.

 

 وقال مَالِكٌ: لا يَلْزَمُهُ شيءٌ من ذلك إلا أن يُدْخِلَهُ بوعدِه ذلك في كُلْفَةٍ فيلزمه ويقضي عليه.
وقال ابنُ شبرمةَ: الوعدُ كُلّهُ لازمٌ، ويقضي به على الواعدِ وَيُجْبَرُ.
فأما تقسيمُ مَالِكٍ: فلا وَجْهَ له ولا برهانَ يُعَضِّدُهُ، لا من قُرْآنٍ، ولا سُنَّةٍ، ولا قولِ صاحبٍ، ولا قياسٍ. فَإِنْ قالوا: قد أضرَّ به؛ إِذْ كَلَّفَهُ من أجلِ وَعْدِهِ عَمَلًا وَنَفَقَةً.

 

 قلنا: فَهَبْكُمْ أنه كما تَقُولُونَ مِنْ أين وَجَبَ على من أَضَرَّ بِآخَرَ، وَظَلَمَهُ وَغَرَّهُ أن يَغْرَمَ له مالًا؟ ما عَلِمْنَا هذا في دينِ اللهِ تعالى إلا حيثُ جاء به النصُّ فقط: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق: 1].

وأما مَنْ ذَهَبَ إلى قولِ ابن شبرمةَ فإنهم احْتَجُّوا بقولِ اللهِ تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 3] والخبرُ الصحيحُ من طريقِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو عن رسولَ اللهِ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». والآخر: الثابت من طريقِ أبي هريرةَ عن النبيِّ: «مِنْ عَلَامَةِ النِّفَاقِ ثَلَاثَةٌ - وَإِنْ صَلَّى، وَصَامَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ: - إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ». فهذانِ أَثَرَانِ في غايةِ الصحةِ»( ).

 

 

وقد خَرَجَ على هذا القولِ جماعةٌ من الفقهاءِ المعاصرينَ كالشيخِ القرضاويِّ حَفِظَهُ اللهُ وَتَابَعَهُ جماعةٌ من العلماءِ والمجامعِ الفقهيةِ فِي مُعَامَلَةِ بيعِ المرابحةِ للآمِرِ بالشراءِ، الذي تُجْرِيهِ اليومَ كثيرٌ من المصارفِ الإسلاميةِ تَخَلُّصًا من الربا المُحَرَّمِ وَدَفْعًا لعَجَلَةِ الاستثمارِ في هذه البنوكِ الإسلاميةِ، فَرَاجِعْ -يَرْحَمُكَ اللهُ- كتابَ الدكتورِ القرضاويِّ: (بَيْعُ المُرَابَحَةِ لِلْآمِرِ بِالشِّرَاءِ) الذي طُبِعَ بمكتبةِ وهبةَ بالقاهرةِ؛ ففيهِ الكثيرُ من الفوائدِ الاجتهاديةِ. 

 

 

 

 

 

 

ولقد أقام اللهُ سبحانَه المعاملاتِ بين خَلْقِهِ على التَّرَاضِي؛ لأنه من المقررِ في الشريعةِ الإسلاميةِ أن لا يَحِلَّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا بِطِيبِ نَفْسٍ منه، قال رسول الله ﷺ: «لَا يَحِلّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»( ).

 

 

 

 

 

 

وانطلاقًا من هذه القاعدةِ كان لا بدَّ من مراعاةِ التَّرَاضِي في سائرِ عقودِ المعاوضاتِ من البيعِ والشراءِ والنكاحِ ونحوِ ذلك، وسائرِ عقودِ الفسوخِ والتبرعاتِ، والأدلةُ على ذلك كثيرةٌ. 

 

 

 

 

 

 

منها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]. 

 

 

 

 

 

 

فهذا نصٌّ على اعتبارِ التَّرَاضِي واشتراطِه لصحةِ التجارةِ وهي البيعُ والشراءُ. 

 

 

 

 

 

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]. 

 

 

 

 

 

 

فَأَكْلُ أموالِ الناسِ عن طريقِ التَّحَايُلِ، واستغلالِ الحكامِ في الضغطِ على الضعفاءِ والاستيلاءِ على أموالهِم سبيلٌ مَذْمُومٌ يَبُوءُ صَاحِبُهُ بالخُسْرَانِ.

 

 

 

 

 

 

وَكُلّهَا طرقٌ تُنَافِي التراضيَ الذي جَعَلَهُ اللهُ تعالى شَرْطًا في صحةِ العقودِ. 

 

 

 

 

 

 

ومنها: ما رواه أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ»( ).

 

 

 

 

 

 

                                                      * * *

 

 

 

 

 

 

وَوَاجِـبٌ عَلَى الجَمِيــعِ الْعَـــدْلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُسَـنُّ الفَضْلُ

 

 

 

 

 

 

إِذَا تَـعَـذَّرَ التَّعَرُّفُ عَلَــــى             ذِي الحَـقِّ فَهْوَ كَالعَدِيمِ جُعِلَا

 

 

 

 

 

 

وَحُرِّمَ الغَرَرُ فِي المُعَاوَضــَاتْ  وَحُرِّمَ المَيْـسِـرُ فِي المُغَالَبَاتْ

 

 

 

 

 

 

وَسَابـِقٌ إِلَى المُبَاحَـــاتِ أَحَـــقْ وَوَاجِبٌ بِالنَّذْرِ بِالشَّرْعِ الْتَحَقْ

 

 

 

 

 

 

يُقَيَّدُ اللَّفْظُ بِمُلْحَقَاتِهْ                 كَشَرْطٍ اوْ مُسْتَثْنًى اوْ صِفَاتِـهْ

 

 

 

 

 

 

                                * * *

 

 

 

 

 

 

وَوَاجِـبٌ عَلَى الجَمِيــعِ الْعَـــدْلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُسَـنُّ الفَضْلُ

 

 

 

 

 

 

هذا البيتُ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها العلَّامَةُ السّعديُّ رحمه الله بقوله: «العدلُ واجبٌ والفرضُ مَسْنُونٌ».

 

 

 

 

 

 

والْعَدْلُ: خِلافُ الْجَوْرِ، وَهُوَ فِي اللّغَةِ: الْقَصْدُ فِي الأُمُورِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الأَمْرِ المُتَوَسِّطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.

 

 

 

 

 

 

والعدلُ هو الميزانُ القِسْطُ الذي يحفظُ حَقَّ الأفرادِ والمجتمعاتِ على السواءِ؛ ولذلك حَثَّ اللهُ تعالى عليه في القرآنِ وَدَعَا الحبيبُ ﷺ الناسَ جميعًا لا سيما أولو الأمرِ إلى مراعاةِ العدلِ في شئونِ رَعِيَّتِهِمْ، وَمَنْ جَعَلَهُمُ اللهُ تعالى تحتَ حُكْمِهِمْ ورعايتِهم.

 

 

 

 

 

 

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل: 90].

 

 

 

 

 

 

وقَال تَعَالَى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]. 

 

 

 

 

 

 

وَقَال النَّبِيُّ ﷺ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»( ).

 

 

 

 

 

 

وَقَوْله ﷺ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ» وَفِي رِوَايَةٍ: « مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ المُسْلِمِينَ ثُمَّ لا يَجْهَدُ لهُمْ وَيَنْصَحُ إِلا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الجَنَّةَ»( ). 

 

 

 

 

 

 

وَمِنْ دُعَائِهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

ومن الأمورِ التي ينبغي التنبيهُ إليها وُجُوبُ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 3]. 

 

 

 

 

 

 

وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ»( ). 

 

 

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ تضمنُ الفلاحَ للمرءِ في الدنيا والآخِرَةِ، وهي قاعدةٌ مطردةٌ في شؤونِ الدنيا والآخرةِ، ولا شَكَّ أن كُلَّ عَدْلٍ فهو مِنْ أَمْرِ اللهِ تعالى، وَكُلَّ ظُلْمٍ فهو مما نَهَى اللهُ تعالى عنه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 9].

 

 

 

 

 

 

قال جُوَيْرِيَةُ بْنُ بَشِيرٍ الهُجَيْمِيُّ: سمعتُ الحسنَ قرأ يومًا هذه الآيةَ ثم وَقَفَ فقال: إن الله عز وجل جَمَعَ لكم الخيرَ كُلَّهُ والشرَّ كُلَّهُ في آيةٍ واحدةٍ، فَوَاللهِ ما تَرَكَ العدلُ والإحسانُ من طاعةِ الله شيئًا إلا جَمَعَهُ، ولا تَرَكَ الفحشاءُ والمنكرُ والبغيُ من معصيةِ الله شيئًا إلا جَمَعَهُ( ).

 

 

 

 

 

 

وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ: الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»( ).

 

 

 

 

 

 

والشريعةُ كُلُّهَا عَدْلٌ ابتداءً من توحيدِ الله تعالى وانتهاءً بالمباحاتِ، فَكُلُّ ذلك عَدْلٌ وَضِدُّهُ ظلمٌ قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، وقال تعالى: ﴿فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36] أَيْ: بالمعاصي.

 

 

 

 

 

 

والفضل أَمْرٌ زَائِدٌ على العدلِ، وهو مُسْتَحَبٌّ في حقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ، ويكونُ أشدَّ استحبابًا في حَقِّ الأخيارِ الذين هم بينَ الناسِ قد حَازُوا سيرةَ الأَبْرَارِ.

 

 

 

 

 

 

ومما يَدُلُّ على هذا ما ثَبَتَ عن أبي رَافِعٍ قال: اسْتَلَفَ رسولُ الله ﷺ من رَجُلٍ بَكْرًا، فجاءته إِبِلُ الصَّدَقَةِ، فأمرنِي أن أقضيَ الرجلَ بَكْرًا، فقلتُ: لم أَجِدْ في الإبلِ إلا رُبَاعِيًّا فقال: «أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» ( ).

 

 

 

 

 

 

وقال جابرُ بنُ عبدِ الله رضي الله عنهما: أَتَيْتُ النبيَّ ﷺ وهو في المسجدِ فقال: «صَلِّ رَكْعَتَيْنِ» وكان لي عليه دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي( ).

 

 

 

 

 

 

                                                 * * *

 

 

 

 

 

 

إِذَا تَـعَذَّرَ التَّعَرُّفُ عَلَى ذِي الحَقِّ فَهُوَ كَالعَدِيمِ جُعِلاَ

 

 

 

 

 

 


هذا البيتُ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها الشيخُ السعديُّ رحمه الله بقوله: «إذا تعذَّر معرفةُ مَنْ له الحقُّ جُعِلَ كالمعدومِ».

 

 

 

 

 

 

لا شكَّ أنَّ أداءَ الحقوقِ إلى أَهْلِهَا من أصولِ السلوكِ والمعاملاتِ في الشريعةِ الإسلاميةِ، ولا يجوزُ لأَحَدٍ أن يتهاونَ في أداءِ حقوقِ الخَلْقِ كالأجيرِ والعاملِ وغيرِهم لما رَوَى عبدُ اللهِ بنُ عمرَ، قال: قال رسول الله ﷺ: « أَعْطُوا الأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ«( ). 

 

 

 

 

 

 

وقد جَعَلَ اللهُ تعالى أداءَ الحقوقِ شَرْطًا في التوبةِ من الذنوبِ المتعلقةِ بالعبادِ، وَجَعَلَ جزاءَ جَحْدِ الحقوقِ تَلَفًا يلحقُ صاحبَه في الدنيا، وإفلاسًا من الحسناتِ في الآخرةِ، فلا بِدِينِهِ ظَفِرَ، ولا لِدُنْيَاهُ جَمَعَ! 

 

 

 

 

 

 

فَعَنْ أَبِي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ قال: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا؛ أَتْلَفَهُ اللهُ»( ). 

 

 

 

 

 

 

وعنه –أيضًا- رضي الله عنه، أن رسولَ الله ﷺ قال: «أَتَدْرُونَ مَنِ المُفْلِسُ؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»( ).

 

 

 

 

 

 

ونظرًا لأنَّ شريعةَ الإسلامِ شريعةٌ واقعيةٌ في أحكامِها، شاملةٌ في تصوراتِها، لم تُهْمِلْ حكمَ الحقِّ الذي عندَ المسلمِ ولم يُتَعَرَّفْ على صاحبِه، وهذا هو موضوعُ هذا البيتِ الذي نَحْنُ بِصَدَدِهِ، فإن الحقَّ إذا تَعَذَّرَ التعرفُ على صاحبِه فإنه حينئذٍ يصيرُ كالعدمِ، ومعنَى كونِه كالعدمِ أي كأنه لا صاحبَ لَهُ فيتصرفُ فيه المسلمُ كيف شاء شريطةَ أن يضمنَه إذا ظَهَرَ صاحبُه يومًا من الدهرِ. 

 

 

 

 

 

 

وهذا واضحٌ جِدًّا في الأحاديثِ المتعلقةِ بحكمِ اللقطةِ؛ فعن زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ أنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ فسأله عن اللقطةِ فقال: «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا» قال: فَضَالَّة الغنم؟ قال: «لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» قال: فضَالَّة الإبل؟ قال: «مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ المَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا»( ).

 

 

 

 

 

 

وَسَعْيُ المسلمِ في رَدِّ هذا الحقِّ لصاحبِه محلُّ إجماعٍ، واستمتاعُه به إن لم يجد صاحبَه محلُّ إجماعٍ كذلك نقلهما القاضي عياضٌ حيث قال: وَقَدْ أَجْمَعَ العلماءُ على الاكتفاءِ بتعريفِ سَنَةٍ ولم يشترط أحدٌ تعريفَ ثلاثةِ أعوامٍ إلا ما رُوِيَ عن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه، ولعله لم يَثْبُتْ عنه. 

 

 

 

 

 

 

وقال النوويُّ: «وقد نَقَلَ القاضِي وغيرُه إجماعَ المسلمينَ على أنه إذا جَاءَ صَاحِبُهَا بعدَ التمليكِ ضَمِنَهَا المتملكُ، إلا دَاوُدَ فأسقطَ الضمانَ، واللهُ أعلمُ» ( ). 

 

 

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ منبثقةٌ من أصلٍ كُلِّيٍّ في شريعةِ الإسلامِ يرجعُ إلى الكلياتِ الخمسِ التي هي: حِفْظُ: (الدِّينِ، والعقلِ، والمالِ، والعِرْضِ، والنَّفْسِ) فَحِفْظُ الحقوقِ الماليةِ وغيرِها أحدُ الكلياتِ الخمسِ، وهذه القاعدةُ أحدُ أَطْرَافِهَا. 

 

 

 

 

 

 

                                                     * * *

 

 

 

 

 

 

وَحُرِّمَ الغَرَرُ فِي المُعَاوَضــَاتْ وَحُرِّمَ المَيْـسِـرُ فِي المُغَالَبَاتْ

 

 

 

 

 

 

هذا البيتُ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها الشيخُ السعديُّ رحمه الله بقوله: «الغررُ والميسرُ محرمٌ في المعاوضاتِ والمغالباتِ».

 

 

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ من الضوابطِ العامةِ لأمورِ البيعِ والشراءِ والمسابقاتِ، فلقد نَصَّ الشرعُ على تحريمِ الغررِ في سائرِ المعاملاتِ الماليةِ، ولم يَسْتَثْنِ منه إلا اليسيرَ الذي تَدْعُو إليه الحاجةُ وَتَسْتَدْعِيهِ المصلحةُ، وَنَصَّ كذلك على تحريمِ المَيْسِرِ في سائرِ المسابقاتِ، ولم يَسْتَثْنِ من ذلكَ إلا ما كان مُعِينًا على طاعةِ اللهِ كما سيأتِي بيانُه. 

 

 

 

 

 

 

فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

قال الإمامُ الخطابيُّ: أصْلُ الغررِ هو ما طُوِيَ عنكَ عِلْمُهُ، وَخَفِيَ عليكَ باطنُه وَسِرُّهُ، وهو مأخوذٌ من قولكِ: طَوَيْتُ الثوبَ على غِرِّهِ أي: على كَسْرِهِ الأولِ.

 

 

 

 

 

 

وكلُّ بيعٍ كان المقصودُ منه مجهولًا غير معلومٍ ومعجوزًا عنه غير مقدورٍ عليه فهو غَرَرٌ، وإنما نَهَى ﷺ عن هذه البيوعِ تَحْصِينًا للأموالِ أن تضيعَ وَقَطْعًا للخصومةِ والنِّزاعِ أن يَقَعَا بينَ الناسِ فيها. 

 

 

 

 

 

 

وأبوابُ الغررِ كثيرةٌ، وَجِمَاعُهَا ما دَخَلَ في المقصودِ منه الجهلُ( ). 

 

 

 

 

 

 

وقال النوويُّ: «وكذلك أَجْمَعَ المسلمونَ على جوازِ أشياءٍ فيها غررٌ حَقِيرٌ، منها أنهم أَجْمَعُوا على جوازِ إجارةِ الدَّارِ والدَّابةِ والثوبِ ونحوِ ذلك شَهْرًا، مع أن الشهرَ قد يكونُ ثلاثينَ يومًا وقد يكونُ تسعةً وعشرينَ. 

 

 

 

 

 

 

وَأَجْمَعُوا على جوازِ دخولِ الحَمَّامِ بالأجرةِ مع اختلافِ الناسِ في استعمالهِم الماءَ وفي قَدْرِ مُكْثِهِمْ، والسببُ أَنَّ الحاجةَ دَعَتْ إلى ارتكابِ الغررِ، ولا يمكنُ الاحترازُ منه إلا بِمَشَقَّةٍ، وكان الغررُ حَقِيرًا» ( ). 

 

 

 

 

 

 

قال شيخُ الإسلامِ: «وأما الغررُ، فإنه ثلاثةُ أنواعٍ: إما المعدومُ؛ كحَبَلِ الحبلةِ، وبيعِ السنينَ، وإما المعجوزُ عن تسليمِه؛ كبيعِ العبدِ الآبِقِ، وإما المجهولُ المطلقُ، أو المُعَيَّنُ المجهولُ جِنْسُهُ أو قَدْرُهُ، كقولِه: بِعْتُكَ عَبْدًا، أو بِعْتُكَ ما في بَيْتِي، أو بِعْتُكَ عَبِيدِي. فأما المعينُ المعلومُ جِنْسُهُ وَقَدْرُهُ، المجهولُ نوعُه وصفتُه، كقولِه: بِعْتُكَ الثوبَ الذي في كُمِّي، أو العبدَ الذي أَمْلِكُهُ ونحو ذلك، ففيهِ خلافٌ مشهورٌ»( ). 

 

 

 

 

 

 

أما الميسرُ فلقد نَصَّ القرآنُ على تحريمِه قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: 91]. 

 

 

 

 

 

 

والميسرُ: قمارُ العربِ بالأَزْلَامِ، وكلُّ شيء فيه قمارٌ من نَرْدٍ وَشِطْرَنْجٍ فهو الميسرُ، وكل ما قُومِرَ به فهو مَيْسِرٌ عندَ مالكٍ وغيرِه من العلماءِ، والميسرُ مأخوذٌ من اليَسَرِ وهو وجوبُ الشيء لصاحبِه، والياسرُ: اللاعبُ بِالْقِدَاحِ. اهـ( ). 

 

 

 

 

 

 

قال شيخُ الإسلامِ: «واتفقَ المسلمونَ على تحريمِ المَيْسِرِ، وَاتَّفَقُوا على أن المغالباتِ المشتملةَ على القمارِ من الميسرِ، سواءٌ كان بالشِّطْرَنْجِ أو بِالنَّرْدِ، أو بالجَوْزِ، أو بالكعابِ، أو البيضِ، قال غيرُ واحدٍ من التابعينَ كعطاءٍ، وطاووسٍ وَمُجَاهِدٍ، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ: كُلُّ شيء من القمارِ فهو من الميسرِ حتى لَعِبُ الصبيانِ بِالْجَوْزِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

قال الشيخُ السعديُّ رحمه الله: بابُ المسابقةِ والمغالبةِ وهي ثلاثةُ أنواعٍ: 

 

 

 

 

 

 

(1) نوعٌ يجوزُ بِعِوَضٍ وغيرِه، وهي: مسابقةُ الخيلِ والإبلِ والسهامِ. 

 

 

 

 

 

 

(2) ونوعٌ يجوزُ بلا عِوَضٍ ولا يجوزُ بِعِوَضٍ، وهي جميعُ المغالباتِ بغيرِ الثلاثةِ المذكورةِ. 

 

 

 

 

 

 

(3) وبغيرِ النَّرْدِ والشطرنجِ ونحوِهما: فَتَحْرُمُ مُطْلَقًا وهو النوعُ الثالثُ. 

 

 

 

 

 

 

لحديثِ: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ» رواه أحمدُ والثلاثةُ. 

 

 

 

 

 

 

وأمَّا ما سِوَاهَا: فإنها دَاخِلَةٌ في القمارِ وَالمَيْسِرِ( ). 

 

 

 

 

 

 

وبهذا يتضحُ لكَ أن المغالباتِ إن كانت تُعِينُ على ما أَمَرَ اللهُ به جَازَتْ بِجُعْلٍ وبغيرِ جُعْلٍ، وإن كانت تُعِينُ على ما نَهَى اللهُ عنه فَمَنْهِيٌّ عنها بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ، وما كان مِنْهَا مُشْتَمِلًا على منفعةٍ بلا مَضَرَّةٍ راجحةٍ كالمسابقةِ والمصارعةِ جَازَ بلا جُعْلٍ( ). 

 

 

 

 

 

 

فائدةٌ: 

 

 

 

 

 

 

مِنْ حُسْنِ النظمِ في هذا البيتِ أَنْ جَمَعَ بينَ تحريمِ الغررِ وَالمَيْسِرِ؛ لأنَّ بينَهما علاقة قوية قد أَفْصَحَ عنها شيخُ الإسلامِ حيث قال: وكذلك لفظُ الميسرِ هو عندَ أكثرِ العلماءِ يتناولُ اللعبَ بالنردِ والشطرنجِ، ويتناولُ بيوعَ الغَرَرِ التي نَهَى عنها النبيُّ ﷺ؛ فإنَّ فيها معنَى القمارِ الذي هو مَيْسِرٌ؛ إِذِ القِمَارُ معناه: أن يؤخذَ مالُ الإنسانِ وهو على مُخَاطَرَةٍ هل يحصُل له عِوَضُهُ، أو لا يَحْصُلُ؟ كالذي يشتري العبدَ الآبِقَ، والبعيرَ الشَّاردَ، وَحَبَلَ الحبَلةِ، ونحو ذلك مما قد يَحْصُلُ له وقد لا يَحْصُلُ له، وعلى هذا فلفظُ المَيْسِرِ في كتابِ الله تعالى يتناولُ هذا كُلَّهُ، وما ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ ﷺ أنه نَهَى عن بيعِ الغررِ يتناولُ كُلَّ ما فيه مُخَاطَرَةٌ، كبيعِ الثمارِ قَبْلَ بُدُوِّ صلاحِها وبيعِ الأَجِنَّةِ في البطونِ، وغيرِ ذلك. اهـ( ).

 

 

 

 

 

 

                                                * * *

 

 

 

 

 

 

وَسَابـِقٌ إِلَى المُبَاحَـــاتِ أَحَـــقْ وَوَاجِبٌ بِالنَّذْرِ بِالشَّرْعِ الْتَحَقْ

 

 

 

 

 

 

هذا البيتُ في شَطْرِهِ الأولِ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها العلَّامةُ السّعديُّ رحمه الله بقوله: «مَنْ سَبَقَ إلى المباحاتِ فَهُوَ أحقُّ بها مِنْ غَيْرِهِ».

 

 

 

 

 

 

وليس المقصودُ بلفظِ المباحِ هنا الإباحةَ المُتَمِّمَةَ لقسمةِ الأحكامِ التكليفيةِ الشرعيةِ؛ التي هي الوجوبُ والندبُ والإباحةُ والكراهةُ والتحريمُ، وإنما المقصودُ بها المشاعُ الذي لم يَقَعْ تحتَ مِلْكِ أحدٍ من الناسِ بطريقةٍ شرعيةٍ صحيحةٍ من بيعٍ أو شراءٍ أو إِرْثٍ أو هِبَةٍ أو نحوِ ذلك.

 

 

 

 

 

 

فيدخلُ في هذا الأرضُ المواتُ، ويدخلُ فيه ما تُخْرِجُهُ الأرضُ غيرُ المملوكةِ كأرضِ الغاباتِ ونحوِها من زروعٍ وحشائشَ وَكَلَأٍ وأشجارٍ وثمارٍ، ويدخلُ في ذلك أيضًا أسماكُ البحارِ والأنهارِ ومياههما، وطيورُ السماءِ وحيواناتُ البَرِّ التي لا يَمْلِكُهَا أحدٌ من الناسِ...إلخ.

 

 

 

 

 

 

ولقد امْتَنَّ اللهُ تعالى على خَلْقِهِ بِأَنْ خَلَقَ لهم ما في الأرضِ جميعًا، وأباحَ لهم سبحانَه أن يَنْتَفِعُوا بها إلا في حدودِ ما حَرَّمَ اللهُ، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29].

 

 

 

 

 

 

قال الشيخُ السّعديُّ رحمه الله: «وفي هذه الآيةِ الكريمةِ دليلٌ على أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحةُ والطهارةُ؛ لأنها سِيقَتْ في معرضِ الامتنانِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

ولأن الله تعالى خَلَقَ المباحَ للخَلْقِ جميعًا وَأَذِنَ لهم جميعًا في الانتفاعِ به، كان مَنْ سَبَقَ إليه أحقَّ الناسِ به، وهذا ما تَضَمَّنَهُ الشطرُ الأولُ من البيتِ، وهذا يدخلُ في أبوابٍ متفرقةٍ منها: إحياءُ المواتِ واستثمارُ الأرضِ، فعن عائشةَ رضي الله عنها: عن النبيِّ ﷺ قال: «مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا«( ). 

 

 

 

 

 

 

وَمِنْ أَهَمِّ الأحكامِ التي تندرجُ تحتَ هذه القاعدةِ، إحياءُ المواتِ، والمواتُ: الأرضُ الَّتِي لا مالِكَ لها، ولا ينتفِعُ بِها أحدٌ، وقيل: هي الأَرْضُ الداثرةُ التي لا يُعْلَمُ أنها مُلِكَتْ. 

 

 

 

 

 

 

وإحياءُ المواتِ معناه في الاصطلاحِ( ):

 

 

 

 

 

 

عندَ الحنفيةِ: التسببُ للحياةِ الناميةِ ببناءٍ أو غرسٍ أو حراثةٍ أو سَقْيٍ. 

 

 

 

 

 

 

وَعَرَّفَهُ ابنُ عرفةَ من المالكيةِ بأنه: لقبٌ لتعميرِ داثرِ الأرضِ بما يقتضي عدمَ انصرافِ المُعَمِّرِ عن انتفاعِه بها.

 

 

 

 

 

 

وَعَرَّفَهُ الشافعيةُ بأنه: عمارةُ الأرضِ الخَرِبَةِ التي لا مالكَ لها، ولا ينتفعُ بها أَحَدٌ.

 

 

 

 

 

 

وَعَرَّفَهُ الحنابلةُ: بأنه عمارةُ ما لم يَجْرِ عليه مِلْكٌ لأَحَدٍ، ولم يوجد فيه أثرُ عِمَارَةٍ.

 

 

 

 

 

 

والذي نستنتجه أن الإحياءَ يكونُ بالعمارةِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، سواء أكان ذلك بالبناءِ أو الزراعةِ أو غيرِ ذلك من وسائلِ الإحياءِ، والذي يترتبُ على الإحياءِ هو المِلْكُ لِلأَرْضِ وما عليها عندَ جمهورِ الفقهاءِ عدا الحنفيةِ خلافًا لبعضِ الحنفيةِ الذين يرونَ أن المُحْيِيَ له حَقُّ الانتفاعِ دونَ التملكِ، ولا شكَّ أنَّ ظاهرَ الدليلِ مع الجمهورِ. 

 

 

 

 

 

 

وهناك أحكامٌ كثيرةٌ تتعلقُ بأحكامِ المواتِ تُطْلَبُ من كُتُبِ الفروعِ. 

 

 

 

 

 

 

وأما الشطرُ الثانِي من البيتِ فإنه إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها العَلَّامَةُ السعديُّ رحمه الله بقوله: «الواجبُ بالنذرِ يلحقُ بالواجبِ بالشرعِ». 

 

 

 

 

 

 

وهي تتناولُ فقهَ وجوبِ الوفاءِ بالنذرِ، وهذا يتطلبُ الحديثَ عن أمرين:

 

 

 

 

 

 

الأولُ: النذرُ لا يُلْحِقُ شيئًا بالشرعِ، بمعنَى أن مَنْ نَذَرَ شيئًا غيرَ مشروعٍ لا يُغني عنه نذرُه شيئًا، وإنما يَلْزَمُهُ ألا يفعلَ وجوبًا، فلا يجبُ بالنذرِ فِعْلُ ما لم يَشْرَعُهُ اللهُ تعالى، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: بَيْنَا النبيُّ ﷺ يخطبُ إذا هو برجلٍ قائمٍ فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيلَ نَذَرَ أن يقومَ ولا يقعدَ ولا يستظلَّ ولا يتكلمَ ويصومَ، فقال النبيُّ ﷺ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ»( ). 

 

 

 

 

 

 

وعن عائشةَ رضي الله تعالى عنها عن النبي ﷺ قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يْعصِهِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

الثاني: مَنْ أَوْجَبَ على نفسِه نذرًا وَجَبَ عليه أن يؤديَه من جنسِ أعمالِ الشرعِ، يعني: نُلْحِقُ نَذْرَهُ بالشرعِ لننظرَ على أيِّ صفةٍ أَذِنَ الشرعُ له في ذلك الذي نَذَرَهُ. 

 

 

 

 

 

 

فلو نَذَرَ أن يتصدقَ لَزِمَهُ أن يتصدقَ على الوجهِ الشَّرعيِّ، ونمنعُه مثلًا من التصدقِ لصناديقِ النذورِ عندَ القبورِ!!

 

 

 

 

 

 

ولو نَذَرَ أن يصليَ فلا يحلُّ له أن يصليَ قاعدًا مع القدرةِ؛ لأنَّ الصلاةَ الواجبةَ لا يجوزُ فيها الجلوسُ مع القدرةِ بخلافِ النافلةِ وهكذا.

 

 

 

 

 

 

                                                  * * *

 

 

 

 

 

 

يُقَيَّـــــدُ اللَّفْـــــظُ بِمُلْحَقَـــاتِـــهِ كَشَرْطٍ اوْ مُسْتَثْنًى اوْ صِفَاتِـهِ

 

 

 

 

 

 

هذا البيتُ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها العَلَّامَةُ السعديُّ رحمه الله بقوله: «يجبُ تقييدُ اللفظِ بملحقاتِه من وَصْفٍ أو شرطٍ أو استثناءٍ، أو غيرِها من القيودِ».

 

 

 

 

 

 

من المعلومِ عندَ الأصوليينَ أن اللفظَ ينقسمُ إلى:

 

 

 

 

 

 

1- عامٌّ، وتعريفُه: «اللفظُ المستغرقُ لجميعِ ما يصلحُ له بحسبِ وَضْعٍ وَاحِدٍ»( ).

 

 

 

 

 

 

2- خاصٌّ، وتعريفُه: «اللفظُ الموضوعُ لواحدٍ، ولو بالنوعِ أو لمتعددٍ مَحْصُورٍ»( ).

 

 

 

 

 

 

وأما التخصيصُ فهو: «قَصْرُ العَامِّ على بعضِ مسمياته» ( ).

 

 

 

 

 

 

والمخصصاتُ تنقسمُ إلى متصلةٍ ومنفصلةٍ، والذي يَعْنِينَا هنا المخصصاتُ المتصلةُ وهي لها أنواعٌ كثيرةٌ، عدَّها بعضُ العلماء اثْنَيْ عَشَرَ نوعًا( )، والمشهورُ منها أربعةٌ: الاستثناءُ، والشرطُ، والصفةُ، والغايةُ.

 

 

 

 

 

 

وبيانُها كالآتي:

 

 

 

 

 

 

- النوعُ الأولُ: الاستثناءُ:

 

 

 

 

 

 

أولًا: تعريفُ الاستثناءِ: الاستثناءُ في اللغةِ: بمعنَى العَطْفِ والعَوْدِ، كقولهم: ثَنَيْتُ الحَبْلَ: إذا عَطَفْتَ بعْضَهُ على بعض. وقيل: بمعنَى الصَّرْفِ والصدِّ من قولهم: ثنيتُ فلانًا عن رَأْيِهِ( ).

 

 

 

 

 

 

وَعَرَّفَهُ الأصوليونَ بأنه: الإخراجُ بـ(إلَّا) أو بإحدى أخواتِها من مُتَكَلِّمٍ واحدٍ( ).

 

 

 

 

 

 

وينقسمُ الاستثناءُ إلى قسمينِ:

 

 

 

 

 

 

متصل: وهو ما كان اللفظُ الأولُ منه يتناولُ الثانيَ( )، أو: هو ما كان المستثنَى من جنسِ المستثنَى منه.

 

 

 

 

 

 

مثالُ ذلك: سلمتُ على المُصَلِّينَ إلا محمدًا، وجاء القومُ إلا زيدًا.

 

 

 

 

 

 

ومنفصل أو منقطع: وهو ما لا يتناولُ اللفظَ الأولُ فيه الثانيَ، أو: ما كان المستثنَى من غيرِ جنسِ المستثنَى منه( ).

 

 

 

 

 

 

مثالُه: رأيتُ القومَ إلَّا كَلْبَهُمْ.

 

 

 

 

 

 

والعلماءُ مُتَّفِقُونَ على أن الاستثناءَ حقيقةٌ في النوعِ الأولِ (المتصلِ)، ولكنهم مختلفونَ في النوعِ الثاني (المنفصلِ): هل الاستثناءُ حقيقةٌ فيه أو مجازٌ؟ 

 

 

 

 

 

 

ومن الفروعِ المترتبةِ على التخصيصِ بالاستثناءِ( ): 

 

 

 

 

 

 

1- إذا قال: له عليَّ عشرةٌ إلا واحدًا. لَزِمَهُ تسعةٌ. جَزَمَ بِهِ الرافعيُّ.

 

 

 

 

 

 

2- إذا قال: أَرْبَعَتُكُنَّ إلا فلانةَ طوالقُ. صحَّ هذا ولم تَطْلُقِ المستثناةُ.

 

 

 

 

 

 

وينبغي التنبيهُ إلى أنَّ الاستثناءَ المستغرقَ لجميعِ الأفرادِ باطلٌ باتفاقِ الأصوليينَ؛ لأنه يُفْضِي إلى اللَّغْوِ، مثل:

 

 

 

 

 

 

إذا قال لزوجتِه مثلا: أنتِ طالقٌ طلقةً إلا طلقةً بَطَلَ الاستثناءُ ووقع الطلاقُ. ولو قال: ثلاثًا إلا ثلاثًا وقعَ الثلاثُ وَبَطَلَ الاستثناءُ( ).

 

 

 

 

 

 

النوعُ الثاني من المخصصاتِ المتصلةِ: الشرطُ: وهو في اللغةِ: العَلَامَةُ، ومنه أشراطُ الساعةِ؛ أي: علاماتُها( ).

 

 

 

 

 

 

وفي الاصطلاحِ: عُرِّفَ الشرطُ بأنه: ما يَلْزَمُ من عَدَمِهِ الْعَدَمُ، ولا يَلْزَمُ من وجودِه وجودٌ ولا عَدَمٌ لِذَاتِهِ( ).

 

 

 

 

 

 

وعَرَّفَه الغزالي بأنه: ما لا يوجد المشروطُ مع عَدَمِهِ، لكن لا يلزمُه أن يوجد وُجُودَهُ( ).

 

 

 

 

 

 

مثل قولِه تعالى: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ [النساء: 12]. 

 

 

 

 

 

 

فقد بَيَّنَتِ الآيةُ الكريمةُ أن استحقاقَ الأزواجِ للنصفِ من ميراثِ الزوجةِ مشروطٌ بألا يكونَ للزوجةِ وَلَدٌ، وهو مُخْرَجٌ وَمُخَصَّصٌ من العَامِّ، وهو استحقاقُ الأزواجِ النصفَ في جميعِ الحالاتِ، فالشرطُ خَصَّصَ عمومَ الآيةِ فيما جاءت به.

 

 

 

 

 

 

ومما يترتبُ عليه من الفروعِ الفقهيةِ:

 

 

 

 

 

 

1- إذا قال: أنتِ طالقٌ ثم طالقٌ إن دخلتِ الدارَ رجعَ الشرطُ إلى الطَّلْقَتَيْنِ( ).

 

 

 

 

 

 

النوعُ الثالثُ: الصفةُ: 

 

 

 

 

 

 

من المخصصاتِ المتصلةِ: الصفةُ، وهي: التَّابِعُ المشتقُّ الذي يَقَع نَعْتًا للموصوفِ( ).

 

 

 

 

 

 

والصفةُ في اللغةِ: هي الاسمُ الدَّالُّ على بعضِ أحوالِ الذاتِ، وذلك نحو: طويل وقصير وعاقل وأحمق، وغيرها. وهي الأَمَارَةُ اللازمةُ بذاتِ الموصوفِ الذي يُعْرَفُ بها( ).

 

 

 

 

 

 

وَيُقْصَدُ بالصفةِ عندَ الأصوليينَ:

 

 

 

 

 

 

مُطْلَقُ القيدِ الذي يفيدُ تحديدَ لفظٍ آخرَ وتقليلَ شُيُوعِهِ، لولاه لكان اللفظُ شاملًا للمعنَى المقصودِ وغيرِه، ولا يُرَادُ بها خصوصُ النعتِ المعروفِ عندَ النحويينَ، وإنما هي لفظٌ مُقَيِّدٌ لآخَرَ غيرُ منفصلٍ عنه، ليس بشرطٍ ولا استثناءٍ ولا غَايَةٍ، فيدخلُ في هذا كُلُّ ما يصلحُ أن يكونَ قَيْدًا؛ سواء كان نعتًا، أو حالًا، أو ظرفًا، أو مُضَافًا، أو مضافًا إليه، أو جارًّا ومجرورًا، أو تمييزًا، أو عطفَ بَيَانٍ، أو بدلَ بعضٍ مِنْ كُلٍّ، وما شَابَهَ ذلك مما هو في معنَى الصفةِ( )، وَكُلُّ هذه القيودِ داخلةٌ تحتَ الصفةِ، فإن المعدودَ والمحدودَ – كما قال صاحبُ البرهانِ – موصوفانِ بِعَدِّهِمَا وَحَدِّهِمَا، والمخصوصُ بالكونِ في مكانٍ وزمانٍ موصوفٌ بالاستقرارِ فيهما... فالصفةُ تجمعُ كُلَّ الجهاتِ التي ذكرتُ( )، والصفةُ لفظٌ مُقَيِّدٌ لآخَرَ( )، وليس المرادُ بها النعتَ بخصوصِه، بل تشتملُ على كُلِّ مَا أَشْعَرَ بمعنًى يتصفُ به أفرادُ العَامِّ.

 

 

 

 

 

 

مثالُ ذلك من السُّنَّةِ حديثُ: «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ»( ) فلفظُ (الغَنَمِ) عَامٌّ يتناولُ السائمةَ وغيرَها؛ كالمعلوفةِ مثلًا، فلما وَصَفَهُ بالسائمةِ اخْتَصَّ بما يكونُ بصفةِ السَّوْمِ، فتعليقُ الحكمِ بصفةٍ من صفاتِ الذاتِ يدلُّ على ثبوتِه للذاتِ عندَ وجودِ هذه الصفةِ، والشرعُ هنا قد عَلَّقَ وجوبَ الزكاةِ في الغنمِ بصفةٍ من صفاتِها، وهي السومُ، والسومُ مختصٌّ ببعضِها لا بِكُلِّهَا، فتجبُ الزكاةُ في السائمةِ اتِّفَاقًا( ).

 

 

 

 

 

 

شروطُ الصفةِ( ):

 

 

 

 

 

 

- يُشْتَرَطُ في الصفةِ الاتصالُ بالموصوفِ، فلا يُفْصَلُ بينَهما في الزمنِ.

 

 

 

 

 

 

- إذا وَقَعَتِ الصفةُ بعدَ مُتَّحِدٍ اخْتَصَّ بها، مثل: سَاعِدِ الأطفالَ اليَتَامَى، وإن وَقَعَتْ بعدَ متعددٍ فقيلَ: ترجعُ إلى الجميعِ، وقيل: ترجعُ إلى الأخيرِ فقط، مثالُ ذلك: أَكْرِمِ العلماءَ، وَجَالِسِ الفقهاءَ الزهادَ، وَأَكْرِمِ العربَ والعَجَمَ المؤمنينَ.

 

 

 

 

 

 

النوعُ الرابعُ: الغايةُ:

 

 

 

 

 

 

ومن المُخَصِّصَاتِ المتصلةِ: الغايةُ. والغايةُ اصطلاحًا: نهايةُ الشيءِ المقتضيةُ لثبوتِ الحكمِ قَبْلَهَا وَانْتِفَائِه بَعْدَهَا( ).

 

 

 

 

 

 

ولها لفظانِ يدلانِ عليها وَهُمَا: «حَتَّى، وإلى» مثل قوله تعالى:

 

 

 

 

 

 

﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: 222].

 

 

 

 

 

 

ومثل قوله تعالى:

 

 

 

 

 

 

﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: 6].

 

 

 

 

 

 

وعلماءُ الأصولِ يُقَسِّمُونَ المخصِّصَ بكسرِ الصادِ – أي الدليلِ الذي حَصَلَ به التخصيصُ – إلى متصلٍ أي لا يَسْتَقِلُّ بنفسِه، وإلى منفصلٍ أي يستقلُّ بنفسِه، والبيتُ الذي معنا قد عَنَى بتوضيحِ المخصصِ المتصلِ: الشرطَ، والاستثناءَ، والصفةَ. 

 

 

 

 

 

 

                                                     * * *
وَالشُّـرَكَـا فِي المِلْكِ يُشْــرِكُـونَا زَيْـدًا وَنَقْصًـا وَيُقَسِّطُونَا

 

 

 

 

 

 

مَصَارِفَ التَّعْمِيرِ حَسْبَمَا حَـوَوْا إِنْ عَلِمُـوا ذَاكَ وَإِلَّا فَاسْتَـوَوْا

 

 

 

 

 

 

تَبَعُّــضُ الْحُكْــمِ عَلَى حِسَابِ           تَفَـاوُتٍ يَحْصُلُ فِي الأَسْبَابِ

 

 

 

 

 

 

ومَنْ نَوَى الرُّجُـــوعَ فِيمَا أَدَّى عَنْ غَيرِهِ لَهُ يَرُدُّ رَدَّا

 

 

 

 

 

 

إِنْ خُيِّرَ المَرْءُ وَكَانَ المَصْلَحَهْ لَهُ فَمَـا أَحَبَّهُ فَلْيُمْنَحَهْ

 

 

 

 

 

 

وَإِنْ تَكُنْ لِغَيرِهِ فَيَلْزَمُ                 الاجْتِهَادُ فِي الَّذِي يُسَلِّمُ

 

 

 

 

 

 

                                    * * *
وَالشُّـرَكَـا فِي المِلْكِ يُشْــرِكُـونَا زَيْـدًا وَنَقْصًـا وَيُقَسِّطُونَا

 

 

 

 

 

 

مَصَارِفَ التَّعْمِيرِ حَسْبَمَا حَـوَوْا إِنْ عَلِمُـوا ذَاكَ وَإِلَّا فَاسْتَـوَوْا

 

 

 

 

 

 

هذانِ البيتانِ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها الشيخُ السعديُّ رحمه الله بقوله: «الشركاءُ في الأملاكِ، يشتركونَ في زيادتِها ونقصانِها، ويشتركونَ في التعميرِ اللازمِ، وَتُقَسَّطُ عليهم المصاريفُ بحسبِ مِلْكِهِمْ، ومع الجهلِ بمقدارِ ما لِكُلٍّ منهم يَتَسَاوونَ».

 

 

 

 

 

 

وفي هذينِ البيتينِ بيانٌ لحدودِ المعاملةِ الشرعيةِ بينَ المشتركينِ في الأملاكِ؛ فحاجةُ الناسِ إلى الشَّرِكةِ لا تَنْقَضِي، فَلَزِمَ أن تُحدَّ الحدودُ وَتُبَيَّنَ معالمُ الشَّرِكةِ كيف نَظَّمَهُمَا الإسلامُ. 

 

 

 

 

 

 

وقد قَسَّمَ الفقهاءُ الشَّركةَ إلى قسمينِ رئيسينِ:

 

 

 

 

 

 

1- شَرِكَةُ المِلْكِ: فهي أن يختصَّ اثنانِ فصاعدًا بشيءٍ واحدٍ، أو ما هو في حُكْمِهِ.

 

 

 

 

 

 

والذي في حُكْمِ الشيءِ الواحدِ هو المتعددُ المختلطُ بحيثُ يتعذرُ أو يتعسرُ تفريقُه لتتميزِ أنصبائِه.

 

 

 

 

 

 

وَعَرَّفَهَا بعضُ الفقهاءِ بقوله: ثبوتُ الحقِّ في شيء لاثنينِ فأكثرَ على جهةِ الشيوعِ.

 

 

 

 

 

 

2- شركةُ العَقْدِ وهي: عقدٌ بينَ المتشاركين في الأصلِ والرِّبحِ، ولها أنواعٌ ثلاثةٌ: شركةُ أموالٍ، وشركةُ أعمالٍ وتُسمَّى أبدانًا، وشركةُ وُجُوهٍ.

 

 

 

 

 

 

والمقصودُ في البيتينِ الشركةُ بالمعنَى الأولِ، وهي شركةُ المِلْكِ.

 

 

 

 

 

 

وتتعددُ مظاهرُ وصورُ شركةِ المِلْكِ، لكنها تنحصرُ في نوعينِ أَسَاسِيَّيْنِ: العينُ وَالدَّيْنُ.

 

 

 

 

 

 

فيشملُ ذلك الدَّارَ الواحدةَ، أو الأرضَ الواحدةَ، إذا اشتراها أو وَرِثَهَا اثنانِ أو أكثر أو انتقلت إليهم بِأَيِّ سببٍ آخَرَ من أسبابِ المِلْكِ، كالهبةِ والوصيةِ وَالصَّدَقَةِ. 

 

 

 

 

 

 

ويدخلُ في ذلك الإردبانِ من القمحِ أو أحدُهما من القمحِ والآخَرُ من الشعيرِ، أو الكِيسَانِ من الدنانيرِ ذاتِ السكةِ الواحدةِ، يُخْلَطَانِ مَعًا طواعيةً أو اضطرارًا - كَإِنِ انْفَتَقَ الكيسانِ المتجاورانِ. 

 

 

 

 

 

 

وتشملُ شركةُ المِلْكِ الديونَ أيضًا؛ بمعنَى أن يكونَ الدَّينُ مستحقًّا لاثنينِ فأكثرَ: كما إذا اشترى إنسانٌ سلعةً من شركاءَ وجعلوا ثمنَها آجِلًا، فإن الشركاءَ يمتلكونَ في هذا الدَّيْنَ بحسبِ أنصبتِهم في الشركةِ.

 

 

 

 

 

 

وقد وَرَدَ في هذينِ البيتينِ المصطلحاتُ الآتيةُ: الزيادةُ، والنقصانُ، ومصاريفُ التعميرِ.

 

 

 

 

 

 

أما الزيادةُ؛ فإما أن تكونَ متصلةً بالأصلِ، بمعنَى أنه يتعذرُ فَصْلُهَا عن الأصلِ، مثل: الزروعِ في الأرضِ الزراعيةِ، والبناءِ في غيرِها.

 

 

 

 

 

 

وإما أن تكونَ الزيادةُ منفصلةً عن الأصلِ؛ مثلَ: وَلَد الماشيةِ، وَثَمَر الزَّرْعِ.

 

 

 

 

 

 

وأما النقصانُ فمعناه واضحٌ، وهو أن يَلْحَقَ بالشيءِ المشتركِ نقصٌ وَخُسْرَانٌ، كما إذا انْهَدَمَ بعضُ البناءِ المشتركِ، أو فَسَدَ بعضُ الزروعِ، أو هَزُلَتِ الماشيةُ، أو نَفَقَ بعضُها...وهكذا.

 

 

 

 

 

 

ومن المُتَّفَقِ عليه بينَ الفقهاءِ أن الخلطاءَ المشتركينَ في ملكيةِ شيءٍ، فإنهم يشتركونَ بحسبِ الأنصبةِ؛ أي بحسب حِصَصِهِمْ في المِلْكِ في الزيادةِ والنقصانِ، فإذا كانوا مُتَسَاوِينَ قُسِّمَتْ بينَهم الزيادةُ أو النقصانُ بالتساوي.

 

 

 

 

 

 

أما عن نفقاتِ التعميرِ فإذا احتاجَ المالُ المشتركُ إلى النفقةِ - سواءً للتعميرِ، أم لغيرِه - كبناءِ مَا تَخَرَّبَ، وإصلاح مَا وَهَى، وإطعام الحيوانات...إلخ فلا خلافَ في وجوبِ تقسيمِ نفقاتِ التعميرِ على الشركاءِ بحسبِ الأنصبةِ، هذا إذا اتَّفَقُوا على الإنفاقِ، أما إذا اخْتَلَفُوا فَوَافَقَ بعضُهم على الإنفاقِ، وَرَفَضَ الآخَرُونَ ففي المسألةِ تفصيلٌ؛ وهذا التفصيلُ بحسبِ قابليةِ المالِ للقسمةِ أو عدمِ قابليتِه: 

 

 

 

 

 

 

1- ففي القابلِ للقسمةِ: كالدارِ الفسيحةِ، والحوانيتِ المُعَدَّةِ للاستغلالِ، والحيواناتِ المتعددةِ، لا إجبارَ على الممتنعِ إذا كان مالكًا، ولكن يُقَسَّمُ المُشْتَرَكُ؛ ليقومَ مَنْ أَرَادَ النفقةَ على الإصلاحِ بإصلاحِ مالِه والإنفاقِ عليه، هذا إذا كان الممتنعُ مالكًا، أما إذا كان الممتنعُ وكيلًا، كَالْوَصِيِّ أو ناظرِ الوقفِ (كما في دارٍ مشتركةٍ بينَ وَقْفَيْنِ مَثَلاً) فإنَّ القاضيَ يُجْبِرُهُ على نفقاتِ التعميرِ؛ لأنَّ تَصَرُّفَهُ منوطٌ بالمصلحةِ. 

 

 

 

 

 

 

2- وإن لم يكن المالُ المشتركُ قابلاً للقسمةِ، أُجْبِرَ الشريكُ على المشاركةِ في النفقةِ؛ لأنَّ امتناعَه مُفَوِّتٌ لِحَقِّ شريكِه في الانتفاعِ بماله، وذلك كما في نفقةِ دابةٍ واحدةٍ، أو مَرَمَّةِ قناةٍ أو بئرٍ مُشْتَرَكٍ، أو إصلاحِ آلةِ رِيٍّ، أو سفينةٍ، أو حائطٍ لا ينقسمُ؛ لتضررِ الشريكِ فيه بعدمِ المشاركةِ في إصلاحِه وترميمِه. 

 

 

 

 

 

 

كل هذا يُطَالَبُ الشريكُ فيه على قَدْرِ حصتِه ونصيبِه، ما دام نصيبُ كُلٍّ منهم معلومًا، فلو تَسَاوَتِ الأنصبةُ لَزِمَ أن تتساوى الحقوقُ، ولو زَادَتْ بعضُ الأنصبةِ على بعضٍ فَكُلٌّ يُطَالَبُ على قَدْرِ نصيبِه، ولا يحلُّ لأحدٍ منهم أن يتأخرَ عن شيءٍ من ذلك، ولا أن يتصرفَ في أكثرَ من حدودِ ما يَمْلِكُ، يدلُّ على ذلك ما ثَبَتَ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي الله عنهما أن رسولَ اللهِ ﷺ قال: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ»( ). 

 

 

 

 

 

 

فهذا الرجلُ الذي يملك جزءًا من العبدِ وله شركاءُ إن أرادَ أن يعتقَ العبدَ فيما يتعلق بنصيبِه فهو دائرٌ بينَ أحدِ حَالَيْنِ: إما أن يكونَ له مالٌ يَفِي بحقِّ شركائِه في ذلك العبدِ فحينئذ يُعْطِيهِمْ حَقَّهُمْ على قَدْرِ حِصَصِهِمْ. وإما أن لا يكونَ له مالٌ يَفِي بِحَقِّهِمْ فحينئذٍ يُعتق من العبدِ بمقدارِ نصيبِ سَيِّدِهِ الذي أَعْتَقَهُ فقط. 

 

 

 

 

 

 

ولم يُهْمِلِ الحكمُ الشرعيُّ حالةَ الجهالةِ – أَعْنِي جهالةَ الشركاءِ لحِصَصِهِمْ – فَإِنْ جَهِلُوا حصصَهم ولم تتبين لهم أنصبتُهم فَهُمْ على مَرْتَبَةٍ سواءٍ في الحقوقِ والوجباتِ, والأرباحِ والخسارةِ, والعمارةِ والبنايةِ. 

 

 

 

 

 

 

ولقد جَمَعَ شيخُ الإسلامِ معظمَ هذه المعانِي في قوله: «... ليس لَهُ - يقصدُ رحمه اللهُ تعالى الشريكَ- أن يتصرفَ في الحمَّامِ المشتركةِ بغيرِ إِذْنِ الشركاءِ ولا بِإِذْنِ الشارعِ, ولا يستولي على شيءٍ منها بغيرِ إِذْنِ الشركاءِ, ولا يُقَسِّمُ بنفسِه شيئًا ويأخذُ نصيبَه منه، سواء كان رصاصًا أو غيرَه، ولا يُغَيِّرُ بناءَ شيءٍ منها، ولا يُغَيِّرُ القِدْرَ ولا غيرَها، وهذا كُلُّهُ باتفاقِ المسلمينَ. 

 

 

 

 

 

 

وليس له أن يُغْلِقَهَا، بل يَكْرِي على جميعِ الشركاءِ إذا طلبَ بعضُهم ذلك، وَتُقَسَّمُ بينَهم الأجرةُ. وهذا مذهبُ جماهيرِ العلماءِ، كأبِي حنيفةَ ومالكٍ وأحمدَ. 

 

 

 

 

 

 

وإذا احتاجتِ الحمَّامُ إلى عمارةٍ لا بُد منها، فعلى الشريكِ أن يُعَمِّرَ معهم في أَصَحِّ قَوْلَيِ العلماءِ، واللهُ أعلمُ»( ). 

 

 

 

 

 

 

                                                    * * *

 

 

 

 

 

 

تَبَعُّـــضُ الحُكْــــمِ عَلَى حِسَـــابِ تَفَـاوُتٍ يَحْصُلُ فِي الأَسْبَابِ

 

 

 

 

 

 

هذا البيتُ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها الشيخُ السّعديُّ رحمه الله بقوله: «قَدْ تَتَبَعَّضُ الأحكامُ بحسبِ تفاوتِ أسبابِها».

 

 

 

 

 

 

الأصلُ في الأحكامِ الشرعيةِ أنها لا تَتَبَعَّضُ، يعنِي ما يترتبُ على الحكمِ الشرعيِّ يقعُ كُلُّهُ دونَ تجزئةٍ أو تبعيضٍ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [البقرة: 208]. 

 

 

 

 

 

 

والدليلُ عليه من السُّنَّةِ ما رُوي عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كان عتبةُ بنُ أبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلى أخيه سعدِ بنِ أبي وقاصٍ أنَّ ابنَ وليدةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ. قالت: فلما كان عامُ الفتحِ أَخَذَهُ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ وقال: ابنُ أخي، قد عَهِدَ إليَّ فيه. فقام عبدُ بنُ زمعةَ فقال: أخي وابنُ وليدةِ أبي وُلِدَ على فِرَاشِهِ. فَتَسَاوَقَا إلى رسولِ الله ﷺ، فقال سعدٌ: يا رسولَ اللهِ، ابنُ أَخِي، كان قد عَهِدَ إليَّ فيه. فقال عبدُ بنُ زمعةَ: أخي وابنُ وليدةِ أبي، وُلِدَ على فِرَاشِهِ، فقال النبي ﷺ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بُنَ زَمْعَةَ» ثم قال النبيُّ ﷺ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ». ثم قال لسودةَ بنتِ زمعةَ زوجِ النبيِّ ﷺ: «احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» لما رأى من شَبَهِهِ بعُتبةَ، فما رآها حتى لَقِيَ اللهَ( ).

 

 

 

 

 

 

فهنا تَبَعَّضَتِ الأحكامُ؛ ففي الوقتِ الذي حَكَمَ فيه ﷺ أنه أخو السيدةِ سودةَ - رضي الله عنها - حَكَمَ عليها أن تحتجبَ منه؛ لما رأى من شَبَهِهِ بعتبةَ بنِ أبي وقاصٍ، يعني أنه وَقَرَ في نفسِ النبيِّ ﷺ أنه ولدُ عتبةَ بنِ أبي وَقَّاصٍ. 

 

 

 

 

 

 

ومن الأمثلةِ الفقهيةِ على ذلك:

 

 

 

 

 

 

1- البنتُ المتولدةُ من ماءِ زِنَا الرجلِ، ذَهَبَ الجمهورُ –عدا الشافعيةِ- إلى أنها لا تَحِلُّ زوجةً لِمَنْ تَوَلَّدَتْ من مائِه وهم بهذا قَاسُوهَا على البنتِ المتولدةِ من النكاحِ؛ بينما حَكَمُوا في بابِ الميراثِ بتفريقِ الأحكامِ فقالوا بعدمِ ميراثِها منه. 

 

 

 

 

 

 

2- ومن فروعِ هذه القاعدةِ أيضًا: لو تَزَوَّجَ إنسانٌ مجهولةَ النَّسَبِ، ثم اسْتَلْحَقَهَا أبوه؛ أَيْ نَسَبَهَا إليه وادَّعَى أنها ابنتُه، ولم يُصَدِّقْهُ الزوجُ؛ فإنَّ النَّسبَ يَثْبُتُ؛ نظرًا لاستلحاقِ الوالدِ، والزوجيةُ تَبْقَى؛ نظرًا لعدمِ تصديقِ الزوجِ بأنها أُخْتُهُ، وهذا مَبْنِيٌّ على قاعدةٍ أخرى وهي أن الإقرارَ حجةٌ قَاصِرَةٌ( ). 

 

 

 

 

 

 

لو تَأَمَّلْنَا في هذه الأمثلةِ لرأينا أنَّ الفرعَ الفقهيَّ قد تَجَاذَبَهُ أصلانِ على السواءِ من جهتينِ مختلفتينِ، ولم نستطع أن نُلْحِقَهُ بأحدِ الأصلينِ دونَ الآخَرِ، فَأَعْمَلْنَا الأصلينِ جميعًا بناءً على أن إعمالَ الأدلةِ أَوْلَى من إِهْمَالِهَا أو إهمالِ بعضِها، وعلى ذلك ففي قضيةِ البنتِ المتولدةِ من ماءِ زِنَا الرجلِ، يتجاذبها أَصْلَانِ:

 

 

 

 

 

 

1- الأصلُ الأولُ أن هذه البنتَ منعقدةٌ من مائِه ومتولدةٌ منه فَأَشْبَهَتِ ابنتَه من النكاحِ، وقد حَكَمَ الشرعُ الشريفُ بثبوتِ التحريمِ لسببٍ أَضْعَفَ من ذلك، وهو ثبوتُ التحريمِ بينَ البنتِ وَأَبِيهَا من الرَّضاعِ، فالأبُ من الرضاعِ ما هو إلا سببٌ في إيجادِ اللَّبَنِ الذي رَضَعَتْ منه الفتاةُ، وعلى ذلك فالصلةُ بينهما صلةٌ غيرُ مباشرةٍ، ومع ذلك ثَبَتَ التحريمُ، أما المتولدةُ من ماءِ الزِّنَا فإن الصلةَ التكوينيةَ بينَها وبينَ الرجلِ أقوى من صلتِها بالأبِ من الرَّضاعِ فثبوتُ التحريمِ في حَقِّهِ أَوْلَى. 

 

 

 

 

 

 

2- الأصلُ الثاني الذي يتجاذبُ هذا الفرعَ أنَّ البنتَ المنعقدةَ من ماءِ الزنا لا يثبتُ نَسَبُهَا للرجلِ؛ لذلك فقد فَقَدَتْ سببَ الميراثِ الأساسَ وهو النَّسبُ؛ لأنه من المُجْمَعِ عليه أن الزِّنَا لا يُثْبِتُ نَسَبًا.

 

 

 

 

 

 

ونحن نرى أن الأصلينِ في قوةٍ واحدةٍ في اجتذابِ الفرعِ من جِهَتَيْهِ؛ أَعْنِي جهةَ النكاحِ وجهةَ الميراثِ، فَأَعْمَلْنَا الأصلينِ جميعًا.

 

 

 

 

 

 

وبالنسبةِ للفرعِ الثاني، نرى أنَّ الفرعَ قد تَجَاذَبَهُ أصلانِ:

 

 

 

 

 

 

الأولُ: ثبوتُ النسبِ بالإقرارِ وهذا متفقٌ عليه. فَمَنْ أقرَّ لمجهولِ النسبِ أنه ابنُه أو أخوه لَحِقَهُ دونَ المطالبةِ ببينةٍ أو دليلٍ، وهذا مَبْنِيٌّ على تَشَوُّفِ الشرعِ إلى أن يكونَ الناسُ ذَوِي نَسَبٍ يرتبطون به؛ لما في ذلك من دَرْءِ مفاسدَ وجلبِ مصالحَ لهذا الإنسانِ الذي لا نَسَبَ له.

 

 

 

 

 

 

الأصلُ الثاني: أن الإقرارَ إنما هو حُجَّةٌ قاصرةٌ في حَقِّ المُقِرِّ، ولا يتعداه إلى غيرِه، لما قد يَتَسَبَّبُ في مفاسدَ عظيمةٍ إذا تَعَدَّتْ آثارُ الإقرارِ على غيرِ المُقِرِّ، فلو افْتَرَضْنَا مثلًا أن إنسانًا أَقَرَّ على نفسِه وعلى غيرِه بجريمةٍ أو دَيْنٍ أو أي شيءٍ دونَ أن يقيمَ دَلِيلًا زائدًا على الإقرارِ؛ فَإِنَّ ضَرَرَ هذا الإقرارِ يتعدى إلى الغيرِ دونَ بينةٍ أو دليلٍ، فلو قلنا بحجيةِ الإقرارِ في حَقِّ المُقِرِّ وغيرِه، لَثَبَتَتْ دماءٌ وحقوقٌ كثيرةٌ في رقبةِ مَنْ لا ذنبَ ولا جريرةَ له.

 

 

 

 

 

 

وفي قضيتِنا هذه فإن الوالدَ أَقَرَّ ببنوةِ هذه المجهولةِ النَّسَبِ التي هي زوجةُ ابنِه في نفسِ الوقتِ، وهذا الإقرارُ يترتبُ عليه إثباتُ البنوةِ وبالتالي الميراثُ في مالِ هذا الوالدِ بعدَ وفاتِه، وإذا قلنا بتعدي آثارِ هذا الإقرارِ فيلحقُ الزوجَ ضررٌ بالغٌ من جراءِ فَسْخِ عقدِ نكاحِ زوجتِه، وربما كانت هذه حيلةً من الأبِ للتفريقِ بينَهما لِسَبَبٍ أو لآخَرَ.

 

 

 

 

 

 

ولذلك قُلْنَا بثبوتِ النسبِ من جهةٍ، وثبوتِ الزوجيةِ من جهةٍ أخرى، وهي الحالةُ النادرةُ الوحيدةُ التي يتزوجُ فيها الإنسانُ أُخْتَهُ من النَّسَبِ. واللهُ أعلمُ.

 

 

 

 

 

 

                                                        * * *

 

 

 

 

 

 

وَمَنْ نَوَى الرُّجُـــوعَ فِيمَا أَدَّى عَنْ غَيرِهِ لَهُ يَرُدُّ رَدَّا

 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السعديُّ رحمه الله بقوله: «مَنْ أدَّى عن غيرِه بِنِيَّةِ الرجوعِ عليه؛ رَجَعَ وإلا فَلَا».

 

 

 

 

 

 

إِنَّ مِنْ أفضلِ الأعمالِ عندَ اللهِ تعالى قضاءَ الدَّيْنِ عن المدينينِ؛ لقولِ رسولِ اللهِ ﷺ: «أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيكَ المُؤْمِنِ سُرُورًا أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا أَوْ تُطْعِمهُ خُبْزًا»( ). 

 

 

 

 

 

 

وعندَ قضاءِ الدَّيْنِ فإن الضامنَ للدَّيْنِ إما أن يَقْضِيَ الدينَ مُتَبَرِّعًا به، غيرَ ناوٍ للرجوعِ به، فلا يحلُّ له حينئذٍ أن يطالب المدين بشيء لأنه تَطَوَّعَ بذلك فأشبهَ الصدقةَ، وسواءٌ ضَمِنَ بِأَمْرِهِ أو بغيرِ أَمْرِهِ. 

 

 

 

 

 

 

وإما أن ينويَ الضامنُ الرجوعَ يعني مطالبةَ المَدِينِ بِالدَّيْنِ، فإنه -والحالةُ هذه- يجوزُ له الرجوعُ عليه سواء ضَمِنَ بأمره وأدَّى بِأَمْرِهِ، أوْ ضَمِنَ بِأَمْرِهِ وَقَضَى بغيرِ أمره، أو ضمنَ بغيرِ أمره وقضى بغيرِ أمره( ). 

 

 

 

 

 

 

وَعَقَدَ الإمامُ البخاريُّ في كتابِ «الكفالة» من الصحيحِ بابَ: مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فليسَ له أن يرجعَ، وبه قال الحَسَنُ. 

 

 

 

 

 

 

وأوردَ فيما أوردَ حديثَ سلمةَ بنِ الأكوعِ رضي الله عنه: أن النبيَّ ﷺ أُتِي بجنازةٍ لِيُصَلِّيَ عليها فقال: «هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟» قالوا: لَا، فَصَلَّى عليه، ثم أُتِيَ بجنازةٍ أخرى فقال: «هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟» قالوا: نَعَمْ، قال: «فَصَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» قال أبو قتادةَ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يا رسولَ الله، فصلَّى عليه( ). 

 

 

 

 

 

 

قال الإمامُ ابنُ حَجَرٍ: ووجهُ الأخذِ منه – أي وجهُ الاستفادةِ من الحديثِ ودلالتُه على الترجمةِ – أنه لو كان لأبي قتادةَ أن يرجعَ لما صلى النبيُّ ﷺ على المدْيان حتى يُوَفِّيَ أبو قتادةَ الدَّيْنَ لاحتمالِ أن يرجعَ، فيكونُ قد صلى على مديان دَيْنُهُ بَاقٍ عليه، فَدَلَّ على أنه ليس له أن يَرْجِعَ ( ). 

 

 

 

 

 

 

ومعنَى هذه القاعدةِ أن مَنْ أَدَّى دَيْنًا أو حقًّا عن غيرِه فَلَهُ أن يرجعَ على مَنْ تَعَلَّقَ الحقُّ بِذِمَّتِهِ بشرطِ أن يكونَ نَاوِيًا للرجوعِ لا للصدقةِ أو الهبةِ أو غيرِ ذلك من التبرعاتِ. 

 

 

 

 

 

 

وقد قَيَّدَ الزركشيُّ القاعدةَ بإذنِ المَدِينِ، فلو لم يأذن فلا يصحُّ الرجوعُ عليه. 

 

 

 

 

 

 

فلو أدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ بلا إِذْنٍ، فإنَّ المدينَ يَبْرَأُ، ولا رجوعَ لمن أدَّى عنه بلا إِذْنِهِ، وهذا محلّ اتفاقٍ لا خلافَ فيه، لكنَّ الخلافَ في صحةِ وقوعِ هذا الأداءِ هبة. كما نَقَلَهُ الزركشيُّ في المنثورِ( ). 

 

 

 

 

 

 

وما سَبَقَ يتعلقُ بديونِ الآدميينَ، فأما دَيْنُ اللهِ تعالى المتوقفُ على النيةِ كالزكاةِ والكفارةِ فلا تقعُ عنه بغيرِ إِذْنِهِ.
                                                               * * *

 

 

 

 

 

 

إِنْ خُيِّرَ المَرْءُ وَكَانَ المَصْلَحَهْ لَهُ فَمَـا أَحَبَّهُ فَلْيُمْنَحَهْ

 

 

 

 

 

 

وَإِنْ تَكُنْ لِغَيرِهِ فَيَلْزَمُ                     الاجْتِهَادُ فِي الَّذِي يُسَلِّمُ

 

 

 

 

 

 

اقْتَضَتْ حكمةُ اللهِ تعالى في شريعةِ الإسلامِ أن يجعلَ مِنْ بينِ هذه التشريعاتِ ما يُخيَّرُ المرءُ في أَدَائِهِ ولا يُلْزَمُ بوجهٍِ واحدٍ لا يَتَعَدَّاهُ، فيُخيَّر المتوضئ بينَ المَرَّةِ والمرتينِ والثلاثِ، وَيُخَيَّرُ الحاجُّ بينَ الإفرادِ والتمتعِ وَالقِرَانِ، وَيُخَيَّرُ الرجلُ في كفارةِ اليمينِ بينَ الإطعامِ والكسوةِ وتحريرِ الرقبةِ إلى غيرِ ذلك من الصورِ( ).

 

 

 

 

 

 

وهذا التخييرُ إما أن تكونَ منفعتُه عائدةً على الشخصِ نفسِه، وإما أن تكونَ عائدةً على غيرِه، فإن كانت المنفعةُ عائدةً عليه اختارَ ما يتيسرُ له ولا حَرَجَ عليه. 

 

 

 

 

 

 

عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتَقِمُ للهِ بِهَا»( ). 

 

 

 

 

 

 

ومن الأحكامِ الشرعيةِ – كمثالٍ على هذا – قولُ الله تعالى في كفارةِ اليمين: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 89].

 

 

 

 

 

 

فالمرءُ هنا مُخَيَّرٌ بينَ هذه الثلاثِ الأُوَلِ: أن يطعمَ عشرةَ مساكينَ، أو يَكْسُوَهُمْ أو يقومَ بتحريرِ رقبةٍ إن وُجِدَتْ وهو في هذه الحالةِ له تمامُ الاختيارِ كما يَحْلُو له وكما يَرَى لِنَفْسِهِ. 

 

 

 

 

 

 

والحالةُ الأخرى أن تكونَ منفعةُ التخييرِ عائدةً على غيرِه وهو حينئذٍ لا يفعلُ ما تَهْوَاهُ نفسُه بل يُطَالَبُ بفعلِ الأصلحِ والأنفعِ، كَالْقَيِّمِ على مالِ اليتيمِ فإنه يَحِلُّ له التصرفُ فيه، ولكنه مُطَالَبٌ أن يتخيرَ الأفضلَ والأنفع له، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: 152].

 

 

 

 

 

 

والرجلُ يُخَيَّرُ في السفرِ أن يصطحبَ معه نساءَه أو يقيم بهن، وَفِعْلُ الأرفقِ بهن أفضلُ، وهكذا يُرَاعِي الإسلامُ في المصالحِ والمفاسدِ ألا تضيعَ الحقوقُ، ولا تسقطَ الواجباتُ. 

 

 

 

 

 

 

                                                  * * *

 

 

 

 

 

 

إِنْ يَخْتَلِــفْ رَأْيُ ذَوِي مُعَامَلَـهْ فِي مُتَعَلِّقَـاتِ ذِي المُعَامَلَهْ

 

 

 

 

 

 

رَجَّــحَ مَنْ يَقْــوَى دَلِيلُــهُ عَلَـى سِوَاهُ كَالْعُودِ لِمَا تَأَصَّـلَا

 

 

 

 

 

 

يَلــْزَم فِي الْمَنَافِعِ الْمُسْتَثْنِيَــاتِ عِلْمٌ بِهَا فِي الْبَيْعِ لَا التَّبَرُّعَـاتِ

 

 

 

 

 

 

إِنْ يَتَّحِدْ فِعْلانِ لَلتَّعَبُّدِ                   جَازَ اكْتِفَـاءٌ مِنْهُمَـا بِوَاحِـدِ

 

 

 

 

 

 

وَمَـــنْ يُـــؤَدِّ مَا عَلَيْــــهِ نِحَــلَا وُجُوبـًا الَّـذِي لَهُ قَدْ جُعِلَا

 

 

 

 

 

 

                                        * * *

 

 

 

 

 

 

إِنْ يَخْتَلِــفْ رَأْيُ ذَوِي مُعَامَلَـهْ فِي مُتَعَلِّقَـاتِ ذِي الْمُعَامَلَهْ

 

 

 

 

 

 

رَجَّــحَ مَنْ يَقْــوَى دَلِيلُــهُ عَلَـى سِوَاهُ كَالْعُودِ لِمَا تَأَصَّـلَا

 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتِ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السعديُّ رحمه الله بقوله: «إِذَا اختلفَ المتعاملانِ في شيءٍ من متعلقاتِ المعاملةِ يُرَجَّحُ أَقْوَاهُمَا دَلِيلًا».

 

 

 

 

 

 

قد يتنازعُ شخصانِ في إثباتِ حَقٍّ من الحقوقِ لله تعالى، أو لأحدِهما قَبْلَ الآخَرِ، وهذا الحقُّ ناشئٌ عن عقدٍ من العقودِ أو معاملةٍ من المعاملاتٍ، كالبيعِ أو الإجارةِ أو النكاحِ، أو في فَسْخٍ من الفسوخِ، كالإقالةِ والطلاقِ، أو غيرِ ذلك من التصرفاتِ. والطريقُ إلى رفعِ ذلك الاختلافِ الادعاءُ به لدى القضاءِ ليفصلَ في شَأْنِهِ، فإن حَدَثَ الاختلافُ بينَ أصحابِ المعاملةِ في أحدِ متعلقاتِ العقدِ، فالقولُ حينئذٍ قولُ مَنْ قَوِيَ دليلُه وَاسْتَبَانَتْ حجتُه، وكانت القرائنُ مُرجِّحةً لقوله.

 

 

 

 

 

 

والأمرُ لا يَخْلُو من أحدِ حَالَيْنِ: 

 

 

 

 

 

 

إما أن تُظْهِرَ القرائنُ رجحانَ قولِ أحدِهما، فالقولُ حينئذ مع مَنْ ظَهَرَتِ الحجةُ له، فمثلًا: اشترى رجلٌ عبدًا فوجدَ فيه إصبعًا زائدةً، فأراد رَدَّهُ، فقال البائعُ: حَدَثَ هذا العيبُ عندَك، وقال المشتري: بل حَدَثَ عندك، فالقولُ قولُ المشترِي؛ إذ لا يمكنُ أن يحدثَ له إصبعٌ زائدةٌ، فالقولُ حينئذٍ قولُ المشتري لرجحانِ حُجَّتِهِ.

 

 

 

 

 

 

ولو اشترى بهيمةً ثم رَدَّهَا، والعيبُ الذي فيها جُرْحٌ، ادعاه المشتري فإذا بالجرحِ لا زال طَرِيًّا فالقولُ حينئذٍ قولُ البائعِ، وهكذا.

 

 

 

 

 

 

والحالةُ الثانيةُ: ألا يظهرَ عندَ أحدِهما ما يُرَجِّحُ قولَه عندَ الآخَرِ، فَذَهَبَ الجمهورُ – المالكيةُ والشافعيةُ والأحنافُ – إلى أن القولَ قولُ البائعِ، وَذَهَبَ الحنابلةُ إلى أن القولَ قولُ المشتري. ويدل لقول الجمهورِ الأَثَر والنظر:

 

 

 

 

 

 

أما الأثرُ فقولُ النبيِّ ﷺ: «إِذَا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ أَوْ يَتَرَادَّانِ»( ).

 

 

 

 

 

 

وهذا نَصٌّ صريحٌ، ولأنَّ المشتريَ مُدَّعٍ أن العيبَ سابقٌ، حتى على قاعدةِ الفقهاءِ، المُدَّعِي: مَنْ إِذَا سَكَتَ تُرِكَ، والمشتري هنا لو سَكَتَ لم يُطَالَبْ، والرسولُ ﷺ يقول: «الْبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي» متفقٌ عليه، والمُدَّعِي هنا بلا شَكَّ هو المشتري، فنقولُ له: ائْتِ أنتَ بِبَيِّنَةٍ أن العيبَ حَدَثَ عندَ البائعِ.

 

 

 

 

 

 

وأما النظرُ فلأن الأصلَ عدمُ وجودِ العيبِ والسلامةِ، ودعوى أن العيبَ سابقٌ على العقدِ خلافُ الأصلِ، وإذا كان لا يُقْبَلُ قولُ المشتري في أصلِ العيبِ فكذلك لا يُقْبَلُ قولُه في زمنِ العيبِ.

 

 

 

 

 

 

ولكن يجبُ أن نعلمَ أن كُلَّ مَنْ قلنا القول قوله، فإنه لا بد من اليمينِ، وهذه قاعدةٌ عامةٌ؛ لقولِ النبيِّ ﷺ: «الْيَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ -وفي لفظ- عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ»( ).

 

 

 

 

 

 

ومن فروعِ هذه القاعدةِ: 

 

 

 

 

 

 

1- لو اختلفَ المتبايعانِ في قِدَمِ العيبِ ولم يكن لأحدِهما بَيِّنَةٌ صُدِّقَ البائعُ في دَعْوَاهُ بِيَمِينِهِ؛ لأنَّ الأصلَ لزومُ العقدِ لأن البائعَ يَدِّعِي أسبقيةَ العقدِ على العيبِ، والمشتري يَدَّعِي تَأَخُّرَهُ عنه، فلو ادَّعَى البائعُ في هذه الصورةِ حدوثَه في يدِ المشتري فمقتضى ما تَقَدَّمَ أنه المُصَدَّقُ، وقد تَقَرَّرَ في القواعدِ: «حيثُ كانَ العيبُ ثَبَتَ الرَّدُّ»( ).

 

 

 

 

 

 

2- ذَهَبَ أهلُ العلمِ إلى أنَّ أسبابَ الشُّفْعَةِ إذا اجْتَمَعَتْ في أكثرَ من شخصٍ، وَحَدَثَ تنازعٌ بينَهم فإنه يُرَاعَى فيها الترتيبُ بينَ الشُّفعاءِ، فَيُقَدَّمُ الأَقْوَى فالأَقْوَى، فَيُقَدَّمُ الشَّريكُ في نفسِ المبيعِ على الخليطِ في حَقِّ المبيعِ، وَيُقَدَّمُ الخليطُ في حَقِّ المبيعِ على الجارِ المُلَاصِقِ؛ لما رُوِيَ عن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنَ الخَلِيطِ، وَالخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

ولأن المؤثرَ في ثبوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ هو دَفْعُ ضررِ الدخيلِ وَأَذَاهُ، وسببُ وصولِ الضررِ والأذى هو الاتصالُ، والاتصالُ على هذه المراتبِ، فالاتصالُ بالشَّركةِ في عينِ المبيعِ أَقْوَى من الاتصالِ بالخلطِ، والاتصالُ بالخلطِ أقوى من الاتصالِ بالجوارِ، والترجيحُ بقوةِ التأثيرِ ترجيحٌ صحيحٌ. 

 

 

 

 

 

 

3- إذا تنازعت زوجاتُ الرجلِ في متاعِ البيتِ، فَإِنْ كُنَّ في بيتٍ واحدٍ فإنَّ المتاعَ الخاصَّ بالنساءِ يكونُ بَيْنَهُنَّ على السواءِ، وإن كانت كُلّ واحدةٍ مِنْهُنَّ في بيتٍ على حِدَةٍ فما في بيتِ كُلِّ امرأةٍ هو بينَها وبينَ زوجِها أو بينَها وبينَ وَرَثَتِهِ( ).

 

 

 

 

 

 

4- إذا مات صاحبُ الأرضِ أو المُزَارِعُ أو مَاتَا جميعًا، فاختلفَ ورثتُهما أو اختلف الحيُّ منهما مع ورثةِ الآخَرِ في شرطِ الأنصباءِ، فإن القولَ يكونُ قولَ صاحبِ البَذْرِ مع يمينِه إن كان حَيًّا، أو وَرَثَتِهِ إن كان مَيْتًا؛ والحجةُ في ذلك أنَّ الأجرَ يستحقُّ عليه بالشرطِ، فإذا ادَّعَى عليه زيادةً في المشروطِ - وَأَنْكَرَهَا هو - كان القولُ قولَه مع يمينِه إن كان حَيًّا، وإن كان مَيْتًا فَوَرَثَتُهُ يَخْلُفُونَهُ، فيكونُ القولُ قولَهم مع أيمانِهم باللهِ على عَمَلِهِمْ، والبينةُ بينةُ الآجِرِ، لأنه يُثبت الزيادة ببينة( ).

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

يَلــْزَمُ فِي المَنَافِعِ المُسْتَثْنِيَــاتْ

 

 

 

 

 

 

عِلْمٌ بِهَا فِي الْبَيْعِ لَا التَّبَرُّعَـاتْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السعديُّ رحمه الله بقوله: «استثناءُ المنافعِ المعلومةِ في العينِ المنتقلةِ بمعاوضةٍ جائزٌ، وفي التبرعاتِ يجوزُ استثناءُ المدةِ المعلومةِ والمجهولةِ».

 

 

 

 

 

 

حكمُ الاستثناءِ في البيعِ والتبرعاتِ، هذا هو موضوعُ هذا البيتِ، وَحَاصِلُ الأمرِ أنَّ البيعَ لابد في استثناءِ المنافعِ فيه من العلمِ بها؛ لأن الجهالةَ حينئذٍ غررٌ بخلافِ التبرعِ فيجوزُ الاستثناءُ المعلومُ والمجهولُ.

 

 

 

 

 

 

مثالٌ يتضحُ به المقال:

 

 

 

 

 

 

رجلٌ بَاعَ سيارةً فَاسْتَثْنَى منفعتَها شَهْرًا يجوزُ، أما لو استثنَى منفعتَها طوالَ حياتِه فلا يجوزُ، بخلافِ لو كانت هذه السيارةُ وَقْفًا فيجوزُ الاستثناءُ في الحالتينِ، قال الإمامُ ابنُ رجبٍ: يَصِحُّ عندَنا استثناءُ منفعةِ العينِ المنتقلِ مِلْكُهَا من نَاقِلِهَا مدةً معلومةً. وَضَرَبَ لذلك عدةَ أمثلةٍ منها: الوقفُ، يصحُّ أن يقفَ ويستثنَي منفعتَه مدةً معلومةً أو مدةَ حياتِه؛ لأن جهالةَ المدةِ هنا لا تُؤَثِّرُ، فإنها لا تُؤَثِّرُ على جهالةِ مدةِ كُلِّ بَطْنٍ بالنسبة إلى مَنْ بَعْدَهُ( ).

 

 

 

 

 

 

وهاهنا حديثٌ يزيدُ المسألةَ وضوحًا وهو حديثُ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه حيث كان يسيرُ على جَمَلٍ له قد أَعْيَا، فمرَّ النَّبيُّ ﷺ فَضَرَبَهُ، فسار سيْرًا ليس يسيرُ مثلَه، ثم قال: «بِعْنِيهِ بِأُوقِيَّةٍ». فبعتُه، فاستثنيتُ حُمْلانَهُ إلى أهلي، فلما قَدِمْنَا أتيتُه بالجَمَلِ، وَنَقَدَنِي ثمنَه، ثم انصرفتُ، فأرسلَ على أثري قال: «مَا كُنْتُ لِآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ فَهُوَ مَالُكَ»( ). 

 

 

 

 

 

 

وقد يُعْتَرَضُ على مثلِ هذه القاعدةِ بِأَمْرَيْنِ: 

 

 

 

 

 

 

الأول: أنه وَرَدَ النهيُّ عن بيعٍ وَشَرْطٍ.

 

 

 

 

 

 

والثاني: أنه وَرَدَ النهيُ عن بيعِ الثُّنْيَا.

 

 

 

 

 

 

وقد أَجَابَ عنهما الإمامُ ابنُ حَجَرٍ فقال: وَوَرَدَ النهيُ عن بيعٍ وَشَرْطٍ، وَأُجِيبَ بأن الذي يُنَافِي مقصودَ البيعِ ما إذا اشترطَ مثلًا في بيعِ الجاريةِ أن لا يَطَأَهَا، وفي الدارِ أن لا يسكنَها، وفي العبدِ أن لا يستخدمَه، وفي الدابةِ ألا يَرْكَبَهَا أما إذا اشترطَ شيئًا معلومًا لوقتٍ معلومٍ فلا بأسَ به.

 

 

 

 

 

 

وأما حديثُ النهيِ عن الثُّنيا ففي نفسِ الحديثِ: «إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ» فَعُلِمَ أن المرادَ أن النهيَ إنما وَقَعَ عَمَّا كان مجهولًا، وأما حديثُ النهيِ عن بيعٍ وشرطٍ ففي إسنادِه مقالٌ وهو قابلٌ للتأويلِ( ).

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

إِنْ يَتَّحِدْ فِعْلانِ لَلتَّعَبُّدِ

 

 

 

 

 

 

جَازَ اكْتِفَـاءٌ مِنْهُمَـا بِوَاحِـدِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «إِذَا اجْتَمَعَتْ عبادتانِ من جنسٍ واحدٍ تَدَاخَلَتْ أفعالهُما وَاكْتُفِيَ عنهما بفعلٍ واحدٍ»( ).

 

 

 

 

 

 

قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: إذا اجْتَمَعَتْ عبادتانِ من جنسٍ واحدٍ ليست إحداهما مفعولةً على جهةِ القضاءِ ولا على طريقِ التبعيةِ للأخرى في الوقتِ تَدَاخَلَتْ أفعالهُما، وَاكْتُفِيَ فيهما بِفِعْلٍ وَاحِدٍ.

 

 

 

 

 

 

وهذه هي القاعدةُ التي تَضَمَّنَهَا البيتُ الذي مَعَنَا، ثم قال الإمامُ ابنُ رجبٍ: وهو على ضَرْبَيْنِ: 

 

 

 

 

 

 

أحدُهما: أن يحصلَ له بالفعلِ الواحدِ العبادتانِ جميعًا، فَيُشْتَرَطُ أن ينويَهما معًا على المشهورِ، كَمَنْ عليه حَدَثَانِ أصغرُ وأكبرُ، فالمشهورُ أنه يَكْفِيهِ عنهما الاغتسالُ إذا نَوَاهُمَا، والصوابُ أنه إن نوى رفعَ الحَدَثِ الأكبرِ أَدَّى عنه الأصغرَ.

 

 

 

 

 

 

وكالرجلِ يَنْذُرُ الحجَّ وعليه حجُّ الفرضِ فحجُّه يُجْزِئُهُ عن الفريضةِ وعن النذرِ.

 

 

 

 

 

 

وكالرجلِ إذا حَنِثَ في أكثرَ من يمينٍ فاجتمع في حَقِّهِ بعددِ الأيمانِ كفاراتٌ يُجْزِئُ عن كفارةٍ واحدةٍ( ).

 

 

 

 

 

 

ومن أمثلةِ ذلك على سبيلِ المثالِ إذا تَعَدَّدَ موجبُ السهوِ في الصلاةِ، فإنه يكفي عنه سجودٌ واحدٌ.

 

 

 

 

 

 

وهكذا فَكُلُّ ما صَدَقَ عليه هذه القيودُ عندَ اجتماعِ عبادتينِ من جنسٍ واحدٍ فإنهما يتداخلانِ ويكفي أحدُهما عن الآخَرِ.

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

وَمَــنْ يُـؤَدِّ مَا عَلَيْهِ نحلَا

 

 

 

 

 

 

وُجُوبـًا الَّـذِي لَهُ قَدْ جُعِلَا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «إِذَا أَدَّى ما عليه وَجَبَ ما جُعِلَ له عليه».

 

 

 

 

 

 

القاعدةُ التي معنا من خلالِ هذا البيتِ متعلقةٌ ببابِ الجعالةِ - وهي عِوَضٌ معلومٌ لمن يعمل عَمَلًا معلومًا أو مجهولًا، فَالْعِوَضُ لا بد أن يكونَ معلومًا، والعملُ يصحُّ كونُه معلومًا أو مجهولًا – والقاعدةُ حَاصِلُهَا: أَنَّ مَنْ وَفَّى بما عليه من العملِ اسْتَحَقَّ ما له من الجَعْلِ، ومما يُسْتَدَلُّ به من كتابِ الله تعالى على ذلك قولُه تعالى: ﴿وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف: 72].

 

 

 

 

 

 

فهذه الآية نَصٌّ في جوازِ الجعالةِ حيث جَعَلَ العِوَضَ معلومًا، والإتيانُ بالمفقودِ لم تُحَدَّدْ معالمُه ولا طريقةُ الإتيانِ، ولذلك نَصَّ العلماءُ تَفْرِيعًا على الأصلِ الذي قَرَّرْنَاهُ أولًا أنه -وإن كانت الجعالةُ عقدًا جائزًا يعني يجوزُ لأحدهما فَسْخُ العَقْدِ- فإن الجاعلَ ليس له أن يفسخَه إذا شرع المجعول له في العمل( ).

 

 

 

 

 

 

ولقد عَبَّرَ الإمامُ القرطبيُّ عن القاعدةِ التي معنا بقوله: «مَتَى قال الإنسانُ: مَنْ جاء بعبدي الآبقِ فَلَهُ دينارٌ لَزِمَهُ ما جَعَلَهُ فيه إذا جاء به»( ).

 

 

 

 

 

 

وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أن نَفَرًا من أصحابِ النبيِّ ﷺ مرُّوا بماءٍ فيهم لديغٌ – أو سَلِيمٌ – فَعَرَضَ لهم رجلٌ من أهلِ الماءِ فقال: هل فيكم مِنْ رَاقٍ؟ إن في الماءِ رجلًا لديغًا، أو سليمًا، فانطلقَ رجلٌ منهم فقرأ بفاتحةِ الكتابِ على شَاءٍ، فَبَرِئَ فجاء بالشَّاءِ إلى أصحابِه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذتَ على كتابِ اللهِ أَجْرًا، حتى قَدِمُوا المدينةَ فقالوا: يا رسولَ اللهِ، أَخَذَ على كتابِ اللهِ أجرًا! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

ومما يتفرعُ على هذه القاعدةِ أن العاملَ إذا لم يَفِ بما عليه من العملِ لم يكن مُسْتَحِقًّا للأجرةِ التي حُدِّدَتْ له، فإنه لم يُؤَدِّ ما عليه حتى يُطَالِبَ بِمَا لَهُ.

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

يَنْضَــافُ بَعْضُ الْفِعْلِ ذَا اتِّحَادِ

 

 

 

 

 

 

لِبَعْضِهِ فِي وَحْلِـهِ المُعْتَادِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

حَوَائِجُ الْمَرْءِ إِذًا تَأْصِيلُ

 

 

 

 

 

 

فَلا تَعْدُ عَنْهُ مَـا لاَ تُفَضِّلُ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

وَفِـــي العُقُــــودِ وَالتَّبَـــرُّعَــاتِ

 

 

 

 

 

 

يُنْظَرُ فِي الأَسْبَابِ وَالمَدْعَاةِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

إِنْ حُفَّـــتِِ الْقـــرَائِــنُ الْقَــوِيَّـهْ

 

 

 

 

 

 

بِالْحُكْمِ قُدِّمَتْ عَلَى الأَصْلِيَّهْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

يَنْضَــافُ بَعْضُ الْفِعْلِ ذَا اتِّحَادِ

 

 

 

 

 

 

لِبَعْضِهِ فِي وَحْلِـهِ المُعْتَادِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «الفعلُ الواحدُ يَنْبَنِي بعضُه على بعضٍ مع الاتصالِ المعتادِ».

 

 

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ لها فروعٌ كثيرةٌ، ومردُّها جميعًا إلى العُرْفِ، أعني مردُّ معرفةِ الاتصالِ المعتادِ من عَدَمِهِ، ولذا قال أهلُ العلمِ بالتفريقِ بينَ الفصلِ الطويلِ وهو ما يَفْحُشُ ويطولُ بحيث يَغْلِبُ على الظنِّ تركُ الفعلِ، وعلى هذا فهو يَضُرُّ ويعد قاطعًا للفعلِ أو العبادةِ، وبينَ الفصلِ اليسيرِ بينَ أجزاءِ الفعلِ الواحدِ فإنه لا يضرُّ، ومردُّ ذلك إلى العُرْفِ.

 

 

 

 

 

 

مثالُ ذلك: الموالاةُ في الوضوءِ أي: تَتَابُعُ أعمالِ الوضوءِ؛ فإن الفصلَ اليسيرَ لا يَقْدَحُ في المُوَلَاةِ.

 

 

 

 

 

 

عن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه، أن رجلًا تَوَضَّأَ فتركَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ على قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النبيُّ ﷺ فقال: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» فَرَجَعَ ثم صلَّى( ).

 

 

 

 

 

 

قال القاضي عِيَاضٌ: وقولُه ﷺ في الذي تَرَكَ موضعَ ظفر قدمِه: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» دليلٌ على استيعابِ الأعضاءِ وغسلِ الرِّجْلَيْنِ، وأنَّ تاركَ بعضِ وضوئِه جهلًا أو عمدًا يَسْتَأْنِفُهُ، لقوله: «فَتَوَضَّأْ»، ولم يَقُلْ: فَاغْسِلْ ما نسيتَ. وقوله له: أَحْسِنْ وضوءَك ولم يقل: اغْسِلْ ذلك الموضعَ، وفيه حُجَّةٌ للموالاة( ).

 

 

 

 

 

 

ومن أمثلةِ ذلك: الاستثناءُ في اليمينِ، فلو اتصل الاستثناءُ على صورتِه المعتادةِ ولم يكن ثَمَّ فَصْلٌ يُشْعِرُ بالانقطاعِ فَإِنَّ الاستثناءَ مُعْتَبَرٌ عندَ أهلِ العلمِ. 

 

 

 

 

 

 

قال الإمامُ السيوطيُّ: فائدةٌ: قال ابنُ السبكيِّ: الضابطُ في التخلل الُمضرِّ في الأبوابِ: أن ُيعدَّ الثاني منقطعًا عن الأول، وهذا يختلفُ باختلافِ الأبوابِ، فرُبَّ بابٍ يُطلبُ فيه من الاتصالِ ما لا يُطلب في غيرِه، وباختلافِ المتخلل نفسِه، فقد يُغْتَفَرُ من السُّكوتِ ما لا يُغْتَفَرُ من الكلامِ، ومن الكلامِ المتعلقِ بالعقدِ ما لا يُغْتَفَرُ من الأجنبيِّ، ومن المتخلل بعذرٍ ما لا يُغْتَفَرُ من غيرِه، فصارت مراتبَ. أقطعُها للاتصالِ كلامٌ كثيرٌ أجنبيٌّ، وَأَبْعَدُهَا عنه سكوتٌ يَسِيرٌ لعذرٍ وبينَهما مراتبُ لا تَخْفَى( ). 

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

حَوَائـِــجُ المَـــرْءِ إِذًا تَأْصِيـــلُ

 

 

 

 

 

 

فَلا تُعَدّ عَنْهُ مَـالًا تُفْضِلُ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «الحوائجُ الأصليةُ للمرءِ لا تُعَدُّ مالًا فَاضِلًا».

 

 

 

 

 

 

إنَّ الحوائجَ تَتَنَوَّعُ إلى ضرورياتٍ وتحسيناتٍ، فالضُّرورياتُ مشتقةٌ من الضرورةِ؛ يعنِي استدعت الضرورةُ وجودَ هذه الحوائجِ، أما التحسيناتُ فهي ما يَسَعُ المرءَ الاستغناءُ عنها ولا يجد حياتَه متوقفةً عليها.

 

 

 

 

 

 

والحوائجُ الأصليةُ لا يعتبرُها الشرعُ مالًا فاضلًا؛ لأنها بمثابةِ المستهلكِ، وينبني عليه أن الشرعَ لا يطالبُه مثلًا بأداءِ فريضةِ الحجِّ من خلالِ بيعِ هذه الحوائجِ الضَّروريةِ.

 

 

 

 

 

 

ولا يطالبُه الشرعُ بالزكاةِ في هذه الحوائجِ مَهْمَا بَلَغَتْ، قال النبيُّ ﷺ: «لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ»( ). 

 

 

 

 

 

 

ويتفرعُ على هذا أن الشرعَ لا يَعْتَبِرُ النفقةَ في الحوائجِ مهما بَلَغَتْ تبذيرًا ولا إسرافًا؛ لأنَّ الإسرافَ هو الإنفاقُ في غيرِ حاجةٍ ولا مَصْلَحَةٍ. 

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

وَفِـــي العُقُــــودِ وَالتَّبَـــرُّعَــاتِ يُنْظَرُ فِي الأَسْبَابِ وَالمَدْعَاةِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «الأسبابُ وَالدَّوَاعِي للعقودِ والتبرعاتِ مُعْتَبَرَةٌ».

 

 

 

 

 

 

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: الصوابُ الذي عليه الكتابُ وَالسُّنَّةُ، واتفقَ عليه الصحابةُ، وهو قولُ أكثرِ الأئمةِ... أنَّ النياتِ معتبرةٌ في العقودِ، كما قال النبيُّ ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وقد عَاتَبَ اللهُ مَنْ أَسْقَطَ الواجباتِ، واستحلَّ المحرماتِ بالحِيَلِ والمُخَادَعَاتِ، كما ذُكِرَ ذلك في سورةِ (ن) وفي قصةِ أهلِ السَّبْتِ، وفي الحديثِ عن النبي ﷺ أنه قال: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللهِ بِأَدْنَى الحِيَلِ».

 

 

 

 

 

 

وقال أيوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: يُخَادِعُونَ اللهَ كما يُخَادِعُونَ الصبيانَ، لو أَتَوُا الأمرَ على وَجْهِهِ لكانَ أهونَ عَلَيَّ. اهـ( ) .

 

 

 

 

 

 

فكلماتُ شيخِ الإسلامِ هذه تُوَضِّحُ معالمَ القاعدةِ المستفادةِ من البيتِ الذي معنا؛ فإن أسبابَ الأفعالِ ودواعيَها الداخليةَ من النوايا وغيرِها معتبرةٌ في سائرِ العقودِ والتبرعاتِ.

 

 

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ أحدُ فروعِ القاعدةِ الشهيرةِ: الأمورُ بمقاصدِها؛ أي حُكْمُ الأمورِ يترتبُ على مقاصدِ فَاعِلِيهَا، وهذا مُسْتَمَدٌّ من قولِ رسولِ الله ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وهو قاعدةٌ كليةٌ لا يخرجُ عنها شيءٌ في عبادةٍ ولا مُعَامَلَةٍ.

 

 

 

 

 

 

ويدخلُ في هذا كما وَضَّحَ شيخُ الإسلامِ أمورُ الحِيَلِ كُلِّهَا، فلا يترددُ المسلمُ في الحكمِ ببطلانِها وتحريمِها، وإن كان ظاهرُ الأمرِ مُسْتَقِيمًا إلا أن الناقدَ بصيرٌ فَاحْذَرِ التخليطَ!!

 

 

 

 

 

 

ومما يتفرعُ على هذا أن العقدَ الذي يَصْدُرُ من المُكْرَهِ لا يَنْعَقِدُ؛ لأنه لا نيةَ له ولا سببَ يَحْمِلُهُ على الفعلِ، ويدخلُ في هذا الأيمانُ؛ فإن النيةَ فيها مُعْتَبَرَةٌ معمولٌ بها.

 

 

 

 

 

 

بل قال الإمامُ الشافعيُّ: هذا الحديثُ – يعني: حديثَ الأعمالِ بالنياتِ – يدخلُ في سبعين بابًا من أبوابِ الفقهِ. فَتَأَمَّلْ.

 

 

 

 

 

 

قال الإمامُ ابنُ القَيِّمِ: وقد تظاهرت أدلةُ الشرعِ وقواعدُه على أنَّ القصودَ في العقودِ معتبرةٌ، وأنها تُؤَثِّرُ في صحةِ العقدِ وفسادِه وفي حِلِّهِ وحرمتِه، بل أبلغُ من ذلك، وهي أنها تؤثرُ في الفعلِ الذي ليس بعقدٍ تحليلًا وتحريمًا فيصيرُ حلالًا تارةً وحرامًا تارةً باختلافِ النيةِ والقصدِ، كما يصيرُ صحيحًا تارةً وفاسدًا تارةً باختلافِها، وهذا كالذَّبحِ، فإن الحيوانَ يحلُّ إذا ذُبِحَ لأجلِ الأكلِ ويحرم إذا ذُبِحَ لغيرِ اللهِ... وكذلك الرجلُ يشتري الجاريةَ يَنْوِي أن تكونَ لموكله فتحرُم على المشترِي وينوي أنها له فتحل له، وصورةُ العقدِ واحدةٌ، وإنما اختلفت النيةُ والقصدُ... وكذلك عَقْدُ النذرِ المعلَّقِ على شرطٍ ينوي به التقربَ والطاعةَ فيلزمُه الوفاءُ بما نَذَرَهُ، وينوي به الحلفَ والامتناعَ فيكون يمينًا مكفَّرةً... وكذلك ألفاظُ الطلاقِ صريحُها وكنايتُها ينوي بها الطلاقَ فيكونُ ما نَوَاهُ وينوي به غيرَه فلا تطلق...وهذه كما أنها أحكامُ الربِّ تعالى في العقودِ فهي أحكامُه تعالى في العباداتِ والمثُوباتِ والعقوباتِ، فقد اطَّرَدَتْ سُنَّتُهُ بذلك في شرعِه وَقَدَرِهِ. اهـ( ).

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

إِنْ حُفَّتِ الْقـرَائِنُ الْقَوِيَّـهْ

 

 

 

 

 

 

بِالحُكْمِ قُدِّمَتْ عَلَى الأَصْلِيَّهْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «إِذَا قَوِيَتِ الْقَرَائِنُ قُدِّمَتْ عَلَى الأَصْلِ».

 

 

 

 

 

 

ومعنَى هذا أن القضيةَ قد تَحُفُّ بها من القرائنِ ما يُقَوِّي الحكمَ عندَ القاضِي ويدعُ الأصلَ الذي تقتضيه ظاهرُ القضيةِ.

 

 

 

 

 

 

وهذا واضحٌ في سورةِ يوسفَ عليه السَّلامُ فإنَّ امرأةَ العزيزِ تَدَّعِي عليه وهي سيدةٌ في قَصْرِهَا، وَمُقْتَضَى الحالِ أنها صادقةٌ، وَلَكِنَّ القرائنَ التي أَحَاطَتْ بيوسفَ عليه السلامُ وقميصِه حَوَّلَتِ الحكمَ في القضيةِ لِصَالِحهِ. 

 

 

 

 

 

 

قال تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: 26- 28].

 

 

 

 

 

 

وعن أبى هريرةَ رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللهُ، هُوَ ابْنُهَا، هُوَ ابْنُهَا؛ فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى»( ). 

 

 

 

 

 

 

فَانْظُرْ كيفَ كان قضاءُ سليمانَ عليه السلامُ بالقرائنِ مُقَدَّمًا على قضاءِ داودَ عليه السلامُ باعتبارِ الأصلِ، قال الإمامُ ابنُ حَجَرٍ: فَظَهَرَ له من قرينةِ شَفَقَةِ الصغرى وَعَدَمِهَا في الكُبْرَى – مع ما انْضَافَ إلى ذلك من القرينةِ الدالةِ على صِدْقِهَا – ما هَجَمَ به على الحكمِ للصغرى. اهـ( ).

 

 

 

 

 

 

قال الإمامُ ابنُ القيمِ: وهل تقتضي محاسنُ الشريعةِ الكاملةُ إلا هذا؟ وهل يَشُكُّ أحدٌ في أن كثيرًا من القرائنِ تفيدُ عِلْمًا أقوى من الظنِّ المستفادِ من الشاهدين بمراتبَ عديدةٍ؟ فالعلمُ المستفادُ من مشاهدةِ الرجلِ مكشوفَ الرأسِ وآخرَ هاربًا قُدَّامه، وبيدِه عمامةٌ، وعلى رأسِه عمامةٌ، فالعلمُ بأنَّ هذه عمامةُ المكشوفِ رأسُه كالضَّروريِّ، فكيف تُقدَّم عليه اليدُ التي إنما تُفيد ظنًّا ما عندَ عدمِ المعارضةِ، وأما مع هذه المعارضةِ فلا تفيدُ شيئًا سوى العلمِ بأنها يدٌ عاديةٌ، فلا يجوزُ الحكمُ بها البتةَ، ولم تأتِ الشَّريعةُ بالحكمِ لهذه اليدِ وأمثالِها البتةَ... وهل الحكمُ بالقافةِ إلا حكمٌ بقرينةِ الشَّبَهِ، وكذلك اللوثُ في القَسَامَةِ... وكذلك الحكمُ بالنكولِ إنما هو مُسْتَنِدٌ إلى قوةِ القرينةِ... اهـ( ).

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

إِذَا تُبِيِّــــنَ فَسَـــــــادُ الْعَــقْـــــدِ

 

 

 

 

 

 

بَطَلَ مَا عَنْهُ نَشَا مِنْ بَعْدِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

وَإِنْ يَكُــــنْ فُسـِــــخَ بِاخْتِيــــارِ

 

 

 

 

 

 

يَبْطُلُ عَقْدٌ قَبْلَ فَسْخٍ طَارِي

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

لا عُـــذْرَ لِلْمُقِــــرِّ، وَالُمـــوَرِّثُ

 

 

 

 

 

 

مُقَامُهُ يَقُومُ مَنْ سَيَـرِثُ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

إِنْ صَـــحَّ حَمْـلُ قَوْلِ مَنْ تَكَلَّمَا

 

 

 

 

 

 

عَلَى المُرَادِ مُطْلَقًا تَحَتَّمَا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

إِذَا تُبِيِّــــنَ فَسَـــــــادُ الْعَــقْـــــدِ

 

 

 

 

 

 

بَطَلَ مَا عَنْهُ نَشَا مِنْ بَعْدِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «إذا تَبَيَّنَ فسادُ العقدِ بَطَلَ ما بُنِيَ عليه». 

 

 

 

 

 

 

من المعلومِ أنَّ العقودَ الصحيحةَ هي التي تكونُ نافذةً فَتَتَرَتَّبُ عليها آثارُها كترتبِ المِلْكِ على البيعِ، وإذا فَسَدَ العقدُ لم يكن لآثارِه وجوده؛ إِذْ لا مُقْتَضَى لوجودِه فالمبنيُّ على الفاسدِ فاسدٌ.

 

 

 

 

 

 

ومن أمثلةِ هذه القاعدةِ:

 

 

 

 

 

 

1- إذا قال: بِعْتُكَ دَمِي بألفٍ فَقَتَلَهُ وَجَبَ القصاصُ، والبيعُ باطلٌ وما في ضِمْنِهِ من الإذنِ بَطَلَ بِبُطْلَانِهِ.

 

 

 

 

 

 

2- إذا صالح عن شفعتِه بمالٍ بَطَلَتْ شفعتُه وسقط المالُ، فلا يجوزُ له أَخْذُهُ.

 

 

 

 

 

 

3- إذا اشترى يمينَه بمالٍ لم يَجُزْ، وكان له أن يَسْتَحْلِفَهُ، وفي هذا المثالِ سَقَطَ المتضمِّن دونَ المتضمَّنِ( ).

 

 

 

 

 

 

4-إذا اتفق رجلانِ على عقدِ المضاربةِ وَشَرَطَ أحدُهما ربحًا مُعَيَّنًا حينئذٍ يفسدُ العقدُ ولا تترتبُ عليه آثارُه.

 

 

 

 

 

 

ويدخلُ في هذا أيضًا العقودُ التي بُنِيَتْ على شروطٍ فاسدةٍ لا يُقِرُّهَا الشَّرْعُ فإنَّ فسادَها يَقْتَضِي بطلانَ العملِ بها ولا كَرَامَةَ.

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

وَإِنْ يَكُــــنْ فُسـِــــخَ بِاخْتِيــــارِ

 

 

 

 

 

 

يَبْطُلُ عَقْدٌ قَبْلَ فَسْخٍ طَارِي

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «وإن فُسِخَ فسخًا اخْتِيَارِيًّا لم تَبْطُلِ العقودُ الطارئةُ قبلَ الفسخِ». وهذا تَتِمَّةٌ للقاعدةِ السابقةِ، فإن فَسَدَ العقدُ – كما سَبَقَ – فإنَّ ما تَرَتَّبَ عليه باطلٌ، أما إذا فُسِخَ العقدُ فَسْخًا اختياريًّا فلا تبْطلُُ العقودُ الطارئةُ قبلَ الفسخِ.

 

 

 

 

 

 

قال الشيخُ السعديُّ رحمه الله: وهذا ضابطٌ وفرقٌ لطيفٌ، فَمَنِ اشترى شيئًا، أو اسْتَأْجَرَهُ أو اتَّهَبَهُ ونحوه، ثم تَصَرَّفَ فيه وَبَعْدَ تَصَرُّفِهِ بانَ العقدُ الأولُ باطلًا بَطَلَ ما بُنِيَ عليه من التصرفِ الأخيرِ؛ لأنه تَصَرَّفَ في شيءٍ لا يَمْلِكُهُ شَرْعًا.

 

 

 

 

 

 

وأما لو تَصَرَّفَ فيه، ثم فُسِخَ العقدُ الأولُ بخيارٍ أو تَقَايُلٍ أو غيرِها من الأسبابِ الاختياريةِ، فإن العقدَ الثانيَ صحيحٌ؛ لأنه تَصَرَّفَ فيما يملكه من غيرِ مَانِعٍ، وحينئذٍ يتراجعُ مع العاقدِ الأولِ إلى ضمانِ المِثْليِّ بِمِثْلِهِ، والمتقوَّم بقيمته.

 

 

 

 

 

 

ومثالُه إذا بَاعَهُ شيئًا ووثقه برهنٍ، أو ضمينٍ، أو أَحَالَهُ بالثمنِ، ثم بَانَ البيعُ باطلًا بَطَلَتِ التوثقةُ والحوالةُ؛ لأنَّها مَبْنِيَّةٌ عليه، فإن فُسِخَ الأولُ فسْخًا وقدْ أحالَ بِدَيْنِهِ فالحوالةُ بِحَالِهَا، وله أن يُحِيلَهُ على مَنْ أَحَالَهُ عليه. واللهُ أعلمُ. اهـ. 

 

 

 

 

 

 

قال الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله: وهذا يَنْبَنِي على ما ذَكَرَهُ الفقهاءُ رحمهم الله، هل الفسخُ رَفْعٌ للعقدِ من أَصْلِهِ أو حِينِهِ؟ فإن قلنا: إنه رفعٌ للعقدِ من أَصْلِهِ، فإنَّ التصرفاتِ التي تكونُ بينَ العقدِ والفسخِ غيرُ صحيحةٍ؛ لأنها وَقَعَتْ بعدَ ارتفاعِ العقدِ، وإن قلنا: إنَّ الفسخَ رَفْعٌ للعقدِ من حينِه فالتصرفاتُ صحيحةٌ.

 

 

 

 

 

 

مثالُ ذلك: بَاعَ رجلٌ بَيْتًا على إنسانٍ، ثم إنَّ المشتريَ أَجَّرَهُ لأنه مالكٌ ثم بعدَ ذلك تَقَايَلَا، يعني فَسَخَا العقدَ البائعُ والمشتري، هل تَبْطُلُ الإجارةُ التي وَقَعَتْ بين العقدِ وبينَ الفسخِ، أو لا تَبْطُلُ؟ يَنْبَنِي على هذا الخلافِ:

 

 

 

 

 

 

إذا قلنا: إنَّ الفسخَ رَفْعٌ للعقدِ مِنْ أَصْلِهِ، فالإجارةُ تَبْطُلُ، وإذا قلنا مِنْ حِينِهِ فالإجارةُ صحيحةٌ، ولكن كيف نُوَزِّعُ الأجرةَ؟ نقولُ: الأجرةُ من حينِ الفصلِ للبائعِ الأولِ، وأما قبلَ ذلك فهي للمشتري، لأنَّ المِلْكَ مِلْكُهُ. اهـ( ).

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

لَا عُـــذْرَ لِلْمُقِــــرِّ، وَالُمـــوَرِّثُ

 

 

 

 

 

 

مُقَامُهُ يَقُومُ مَنْ سَيَـرِثُ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

اشْتَمَلَ هذا البيتُ على قَاعِدَتَيْنِ: 

 

 

 

 

 

 

الأولى: لا عُذْرَ لمن أَقَرَّ على نفسِه. 

 

 

 

 

 

 

الثانيةُ: الوارثُ يقومُ مقامَ مُوَرِّثِهِ. 

 

 

 

 

 

 

أما القاعدةُ الأُولَى فهي تُقَرِّرُ أنَّ أقوى البيناتِ هي التي يقرُّ المرءُ بها على نفسِه، ومن المعلومِ أنَّ الإقرارَ أحدُ الأدلةِ التي تَثْبُتُ بها التهمةُ جنائيةً كانت أو ماليةً، فإذا أَقَرَّ إنسانٌ بحقٍّ أو تَصَرَّفَ وأقام خصمُه البينةَ عليه بذلك فإن هذه البينةَ باطلةٌ وغيرُ مُعْتَبَرَةٍ، ولا يجوزُ للقاضِي أو الحاكمِ قَبُولُهَا؛لأنَّ الحقَّ ثَبَتَ بإقرارِ المدعى عليه الذي هو أَعْلَى من البينةِ، لأنَّ البينةَ مع قوتِها تحتملُ أن تكونَ كَاذِبَةً، وأما الإقرارُ فاحتمالُ الكذبِ فيه معدومٌ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يُقِرُّ على نفسِه كاذبًا فيما فيه ضَرَرٌ عليه. 

 

 

 

 

 

 

ومن أمثلةِ هذه القاعدةِ ومسائلِها: 

 

 

 

 

 

 

ادَّعَى شخصٌ دَيْنًا على تركةِ مَيَّتٍ فَأَقَرَّ بذلك أحدُ الورثةِ، فإن الدَّيْنَ يُؤْخَذُ من نصيبِ الُمقرِّ، حتى لوْ أَقَامَ المُدَّعِي البينةَ، وإنما يُؤْخَذُ بالبينة من نصيبِ غيرِ المُقِرِّ( ). 

 

 

 

 

 

 

ومما يُستدل به على هذه القاعدةِ ما ثَبَتَ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: أتى رجلٌ رسولَ اللهِ ﷺ وهو في المسجدِ فَنَادَاهُ فقال: يا رسولَ اللهِ، إِنِّي زنيتُ، فَأَعْرَضَ عنه حتى رَدَّدَ عليه أربعَ مرَّاتٍ، فلما شَهِدَ على نفسِه أربعَ شهاداتٍ دَعَاهُ النبيُّ ﷺ فقال: «أَبِكَ جُنُونٌ؟» قال: لا. قال: «فَهَلْ أُحْصِنْتَ؟» قال: نَعَمْ. فقال النَّبيُّ ﷺ: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ»( ).

 

 

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ ليست على إطلاقِها، فَإِنَّ المرءَ قد يُقِرُّ بما لا يُقِرُّ عليه، فمثلًا المُكْرَهُ إذا أُكْرِهَ بغيرِ حَقٍّ فإن إقرارَه لا يُرَتِّبُ الشرعُ عليه حَقًّا. 

 

 

 

 

 

 

قال شيخُ الإسلامِ: «... وإذا أُكْرِهَ على الإقرارِ لم يَصِحَّ إقرارُه»( ). 

 

 

 

 

 

 

وكذلك إقرارُ المريضِ مَرَضًا مُتَّصِلًا بالموتِ لبعضِ الورثةِ بمالٍ فإنَّ الجمهورَ لا يقبلونَ هذا الإقرارَ؛ لأنَّ التهمةَ فيه محتملةٌ ظاهرةٌ، خلافًا للشافعيِّ فإنه يقبلُ هذا الإقرارَ بناءً على حُسْنِ الظنِّ بالمسلمِ( ). 

 

 

 

 

 

 

أما القاعدةُ الثانيةُ فهي تُقَرِّرُ حَقَّ الورثةِ في مالِ الوارثِ، وأنهم يَقُومُونَ مقامَه في الأمورِ الماليةِ لا في كُلِّ الأمورِ الدنيويةِ؛ إِذْ مالُ الميتِ قد تَعَلَّقَ بالورثةِ بعدَ موتِه، فصاروا يُمَارِسُونَ من الحقِّ ما كان له قَبْلَ موتِه، من العقدِ والفسخِ والبيعِ والشِّراءِ والإقالةِ والإمضاءِ ونحوِ ذلك مما هو معروفٌ مِنْ كُتُبِ الفروعِ. 

 

 

 

 

 

 

عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، أن رسولَ اللهِ ﷺ كان يُؤْتَى بالرجلِ الميَّتِ عليه الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ: «هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ؟» فإن حُدِّثَ أنه تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عليه، وَإِلَّا قال: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» فلما فَتَحَ اللهُ عليه الفُتوحَ قال: «أَنَا أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

قال أبو العباسِ القرافيُّ: اعْلَمْ أنه يُرْوَى عن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلِوَرَثَتِهِ» وهذا اللفظُ ليس على عُمُومِهِ، بل من الحقوقِ ما ينتقلُ إلى الوارثِ، ومنها ما لا ينتقلُ، فَمِنْ حَقِّ الإنسانِ أن يُلَاعِنَ عندَ سببِ اللعانِ، وأن يَفِيَ بَعْدَ الإيلاءِ، وأن يعودَ بعدَ الظهارِ، وأن يختارَ مِنْ نِسْوَة إذا أَسْلَمَ عليهن وَهُنَّ أكثرُ مِنْ أَرْبَعٍ، وأن يختارَ إِحْدَى الأختينِ إذا أَسْلَمَ عَلَيْهِمَا،... فجميعُ هذه الحقوقِ لا ينتقلُ للوارثِ منها شيءٌ، وإذا كانت ثابتةً للمورِّثِ، والضابطُ لما يَنْتَقِلُ إليه ما كان مُتَعَلِّقًا بالمالِ أو يَدْفَعُ ضررًا عن الوارثِ في عِرْضِهِ بتخفيفِ أَلَمِهِ، وما كان متعلقًا بنفسِ المورثِ وعقلِه وشهواتِه لا ينتقلُ للوارثِ، والسِّرُّ في الفرقِ، أنَّ الورثةَ يَرِثُونَ المالَ فيرثون ما يتعلقُ به تَبَعًا له ولا يرثونَ عَقْلَهُ ولا شهوتَه ولا نفسَه، فلا يرثونَ ما يتعلقُ بذلك( ) .

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

إِنْ صَـــحَّ حَمْـلُ قَوْلِ مَنْ تَكَلَّمَا

 

 

 

 

 

 

عَلَى المُرَادِ مُطْلَقًا تَحَتَّمَا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «يجبُ حَمْلُ كلامِ الناطقينَ على مُرَادِهِمْ مَهْمَا أَمْكَنَ في العقودِ والفسوخِ والإقراراتِ وغيرِها».

 

 

 

 

 

 

إنَّ اللهَ تعالى وَضَعَ الألفاظَ بينَ عبادِه تَعْرِيفًا ودلالةً على ما في نفوسهم، فإذا أَرَادَ أحدُهم من الآخَرِ شيئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وما في نفسِه بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ على تلك الإراداتِ والمقاصدِ أحكامَها بواسطةِ الألفاظِ، فإذا اجتمعَ القصدُ والدلالةُ القوليةُ أو الفعليةُ تَرَتَّبَ الحكمُ، وهذا الأمرُ من مقتضياتِ عَدْلِ اللهِ وحكمتِه ورحمتِه، فإن خواطرَ القلوبِ وإرادةَ النفوسِ لا تدخلُ تحتَ الاختيارِ، فلو تَرَتَّبَتْ عليها الأحكامُ لَكَانَ في ذلك أعظمُ حَرَجٍ ومشقةٍ على الأُمَّةِ. 

 

 

 

 

 

 

والألفاظُ بالنسبةِ إلى مقاصدِ المتكلمينَ ونياتِهم وإرادتِهم لمعانِيها ثلاثةُ أَقْسَامٍ: 

 

 

 

 

 

 

أحدُها: أن تظهرَ مُطَابَقَة القصدِ لِلَّفْظِ، كما إذا سَمِعَ العاقلُ والعارفُ باللغةِ قولَه ﷺ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا، كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ»( ) فإنه لا يستريبُ ولا يشكُّ في مرادِ المتكلمِ وأنه رؤيةُ البصرِ حقيقةً، وعامةُ كلامِ اللهِ ورسولِه من هذا القَبِيلِ. 

 

 

 

 

 

 

القسمُ الثاني: ما يَظْهَرُ بأن المتكلمَ لم يُرِدْ معناه، وقد يَنْتَهِي هذا الظهورُ إلى حَدِّ اليقينِ بحيثُ لا يَشُكُّ السامعُ فيه، وهذا القسمُ نَوْعَانِ: 

 

 

 

 

 

 

أحدُهما: أن لا يكونَ مُرِيدًا لمُقْتَضَاهُ ولا لِغَيْرِهِ. 

 

 

 

 

 

 

والثاني: أن يكون القواعدُ الفقهيةُ

 

 

 

 

 

 

مَا لِلْمَقَاصِدِ مِنَ الأَحْكَامِ

 

 

 

 

 

 

فَلِلْوَسَائِلِ عَلى التَّمَامِِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

الاسْتِطَاعَةُ بِهَا تَعَلَّقَا

 

 

 

 

 

 

وُجُوبُ مَا بِهِ أُمِرْنَا مُطْلَقَا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

مَبْنَى الشَّرِيعَةِ عَلَى أَصْلَيْـنِ أَنْ

 

 

 

 

 

 

تُخْلِـصَ للهِ وَتَتْبَـعَ السُّنَـنْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

مَا لِلْمَقَاصِدِ مِنَ الأَحْكَامِ

 

 

 

 

 

 

فَلِلْوَسَائِلِ عَلى التَّمَامِِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

هذا شروعٌ في الكلامِ على القواعدِ الفقهيةِ والأصوليةِ التي تَضَمَّنَهَا هذا النظمُ، ولقد بدأ النَّظمُ بهذه القاعدةِ: (الوسائلُ لها حكمُ المقاصدِ). 

 

 

 

 

 

 

وهذه قاعدةٌ أصوليةٌ جليلةٌ تَدْخُلُ في أبوابٍ كثيرةٍ من الفقهِ. 

 

 

 

 

 

 

ولكي نفهمَ مَرَامِيَ هذه القاعدةِ وَنَسْبُرَ غَوْرَهَا، ينبغي أولًا أن نُبَيِّنَ ما هو مقصودُنا بالمقاصدِ والوسائلِ، وما هي علاقةُ الوسائلِ بالمقاصدِ، وما هي مرتبةُ الوسائلِ من المقاصدِ، وما هي القواعدُ والفروعُ التي تَنْدَرِجُ ضِمْنًا في هذه القاعدةِ الجليلةِ.

 

 

 

 

 

 

تعريفُ المقاصدِ:

 

 

 

 

 

 

المقاصدُ: هي الأعمالُ والتصرفاتُ المقصودةُ لِذَاتِهَا، والتي تَسْعَى النفوسُ إلى تَحْصِيلِهَا بمساعٍ شَتَّى أو تُحْمَلُ على السعيِ إليها امْتِثَالًا.

 

 

 

 

 

 

وعلى ذلك فَهِيَ تنقسمُ إلى قِسْمَيْنِ:

 

 

 

 

 

 

1- مقاصد للشرعِ الشريفِ.

 

 

 

 

 

 

2- مقاصد للناسِ في تَصَرُّفَاتِهِمْ.

 

 

 

 

 

 

والذي ينبغي الاهتمامُ به والتركيزُ عليه هنا ما يُسَمَّى بالمقاصدِ العامةِ للشرعِ الشريفِ، وهي المعانِي والحكمُ التي لحظها الشارعُ الحكيمُ في جميعِ أحوالِ التشريعِ أو مُعْظَمِهَا، بحيثُ لا نلمحُها في نوعٍ دونَ نوعٍ من الأحكامِ الشرعيةِ، بل نَرَاهَا ماثلةً في عامةِ أحكامِ التشريعِ. 

 

 

 

 

 

 

والمقاصدُ الشرعيةُ نوعانِ:

 

 

 

 

 

 

1- مَعَانٍ حقيقيةٌ.

 

 

 

 

 

 

2- مَعَانٍ عُرْفِيَّةٌ عَامَّةٌ.

 

 

 

 

 

 

وَيُشْتَرَطُ في جميعِها أن يكونَ ثابتًا ظاهرًا مُنْضَبِطًا مُطَّرِدًا.

 

 

 

 

 

 

والمعانِي الحقيقيةُ هي التي تُدْرِكُ العقولُ السليمةُ المجردةُ ملاءمتَها للمصلحةِ أو منافرتَها لها، وهذا الإدراكُ لا يتوقفُ على معرفةِ العاداتِ أو التقاليدِ أو الأعرافِ أو الزمانِ أو المكانِ أو القوانينِ أو غيرِ ذلك مما هو طَارِئٌ على التشريعِ.

 

 

 

 

 

 

وإذا أَرَدْنَا أن نوضحَ ذلك بمثالٍ، فَلْنَأْخُذِ العدلَ مِثَالًا لتلك المعانِي الحقيقيةِ، فالعقلُ يُدْرِكُ نفعَ العدلِ دونَ الرجوعِ إلى قانونٍ أو عادةٍ أو عُرْفٍ، وَقُلْ مثلَ ذلك في كونِ الاعتداءِ على النفوسِ ضارًّا، وكونِ الأخذِ على يدِ الظالمِ نافعًا للمجتمعِ...وَهَلُمَّ جَرًّا.

 

 

 

 

 

 

وَلَسْنَا بحاجةٍ إلى التنبيهِ إلى أن العقولَ التي تُدْرِكُ في هذه المعانِي نَفْعًا أو ضُرًّا، هي العقولُ السليمةُ التي لم تَتَلَوَّثْ بمثالبِ العاداتِ الجاهليةِ وشذوذاتِ التقاليدِ الشيطانيةِ، فمثلُ هذه العقولِ لا شَكَّ قد تَجْنَحُ إلى تحسينِ القبيحِ وتقبيحِ الحَسَنِ، دونَ الرجوعِ إلى قاعدةٍ أو ضَابِطٍ، بل استنادًا إلى مَحْضِ الهَوَى والتَّشَهِّي.

 

 

 

 

 

 

هذا عن المقاصدِ أو المعانِي الحقيقيةِ التي تُدْرَكُ بواسطةِ العقلِ الصحيحِ وَالفِطَرِ النقيةِ السليمةِ.

 

 

 

 

 

 

أما المقاصدُ أو المعانِي العُرْفِيَّةُ، فهي الأمورُ التي أَلِفَتْهَا النفوسُ وَأَدْرَكَتْ ما فيها من مصالحَ أو مفاسدَ، بناءً على تَكَرُّرِ التجربةِ وَاطِّرَادِ الوقائعِ والعاداتِ، كإدراكِ كونِ الإحسانِ معنًى ينبغي أن تَتَعَامَلَ به الأُمَّةُ، وكإدراكِ كونِ عقوبةِ الجانِي رادعةً له عن العودةِ إلى ممارسةِ الجريمةِ...وهكذا. 

 

 

 

 

 

 

وإذا أردتَ أخي الكريم أن تتوسعَ في إدراكِ هذه المعانِي، فعليكَ بكتابِ مقاصدِ الشريعةِ الإسلاميةِ لعلامةِ المقاصدِ في هذا الزمانِ الشيخِ الطاهرِ بنِ عَاشُورٍ -رحمه الله– فقد اسْتَخْلَصْتُ هذه الفوائدَ السالفةَ وَاعْتَصَرْتُهَا وَقَدَّمْتُ لكَ زبدتَها من مواضعَ شَتَّى من هذا السِّفْرِ الماتعِ. 

 

 

 

 

 

 

 أما الوسائلُ فتعريفُها أنها: هي الأحكامُ التي شُرِعَتْ لأنَّ بها تحصيلَ أحكامٍ أُخْرَى( ).

 

 

 

 

 

 

ومن هذا التعريفِ يتبينُ لنا أن الوسائلَ غيرُ مقصودةٍ لِذَاتِهَا بل لتحصيلِ غيرِها على الوجهِ الأكملِ، فبدونِ الوسيلةِ قد لا يتحققُ المقصدُ أَصْلًا، وإذا تَحَقَّقَ فإنه يتحققُ مُشْتَمِلًا على نوعِ خللٍ وَفَسَادٍ.

 

 

 

 

 

 

ولتوضيحِ ذلك نضربُ المثالينِ الآتيينِ:

 

 

 

 

 

 

1- الإشهادُ على عقدِ النكاحِ وإشهارُه غيرُ مَقْصُودَيْنِ لِذَاتِهِمَا؛ وإنما شُرِعَا لمقصدٍ آخرَ وهو أنه وسيلةٌ للتمييزِ بينَ صورةِ النكاحِ الشرعيِّ وبينَ صورةِ السفاحِ المُحَرَّمِ( ).

 

 

 

 

 

 

2- الحَوْزُ للرَّهْنِ ليسَ مقصودًا لِذَاتِهِ، ولكنه شُرِعَ لتحقيقِ ماهيةِ الرهنِ، وحصولُ التوثيقِ المُفْضِي إلى حفظِ الحقوقِ حتى لا يقومَ الراهنُ -تحتَ ضغطِ الحاجةِ إلى المالِ – إلى رَهْنِهِ عندَ دائنٍ آخَرَ فَيَفُوتُ الرهنُ على الأولِ( ).

 

 

 

 

 

 

وإذا عَلِمْنَا هذا، تَبَيَّنَ لنا أن الوسائلَ لا تَتَسَاوَى مع المقاصدِ بحالٍ من الأحوالِ، بل تأتِي تابعةً لها وَفِي الدرجةِ الثانيةِ بعدَها؛ لذلك كان من القواعدِ المقررةِ عندَ الأصوليينَ أنه: إذا سَقَطَ اعتبارُ المقاصدِ سَقَطَ اعتبارُ الوسائلِ. 

 

 

 

 

 

 

ومما أَسْلَفْنَاهُ يتبينُ لنا ارتباطُ الوسائلِ بالمقاصدِ طَرْدًا وَعَكْسًا، وحتى نزيدَ الأمرَ بَيَانًا ننقلُ ما قاله الإمامانِ ابنُ القيمِ في كتابِه إِعْلَامِ المُوَقِّعِينَ، والشاطبيِّ في المُوَافَقَاتِ.

 

 

 

 

 

 

قال الإمامُ ابنُ القيمِ: «لمَّا كانتِ المقاصدُ لا يُتَوَصَّلُ إليها إلا بأسبابٍ وَطُرُقٍ تُفْضِي إليها كانت طُرُقُهَا وأسبابُها تابعةً لها مُعْتَبَرَةً بها، فوسائلُ المحرماتِ والمعاصِي في كراهتِها والمنعُ منها بحسبِ إفضائِها إلى غاياتِها وارتباطِها بها، ووسائلُ الطاعاتِ والقرباتِ في محبتِها وَالإِذْنِ فيها بحسبِ إفضائِها إلى غاياتِها، فوسيلةُ المقصودِ تابعةٌ للمقصودِ، وَكِلَاهُمَا مقصودٌ، لكنه مقصودٌ قَصْدَ الغاياتِ، وهي مقصودةٌ قصدَ الوسائلِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

وقال الشاطبيُّ رحمه الله: «وقد تَقَرَّرَ أَنَّ الوسائلَ من حيثُ هي وسائلُ غيرُ مقصودةٍ لأَنْفُسِهَا، وإنما هي تَبَعٌ للمقاصدِ بحيثُ لو سَقَطَتِ المقاصدُ سَقَطَتِ الوسائلُ، وبحيثُ لو تُوُصِّلَ إلى المقاصدِ دونَها لم يُتَوَسَّلْ بها، وبحيث لو فَرَضْنَا عدمَ المقاصدِ جملةً لم يكن للوسائلِ اعتبارٌ، بل كانت تكونُ كالعَبَثِ، وإذا ثَبَتَ هذا فالأعمالُ المشروعةُ إذا عُمِلَتْ للتوصلِ بها إلى حظوظِ النفوسِ، فقد صارت غيرَ مُتَعَبَّدٍ بها إلا من حيثُ الحَظُّ، فالحظُّ هو المقصودُ بالعملِ لا التعبدِ، فَأَشْبَهَتِ العملَ بالرياءِ لأجلِ حظوظِ الدنيا من الرياسةِ والجاهِ والمالِ، وَمَا أَشْبَهَ ذلك...» إلخ( ).

 

 

 

 

 

 

وإذا تَنَوَّعَتِ الوسائلُ وَتَعَدَّدَتْ وكانت كُلُّهَا مفضيةً إلى مقصدٍ واحدٍ، فإن الحكمَ في هذه الحالةِ أن الشريعةَ تُعْتَبَرُ في التكليفِ أَقْوَى هذه الوسائلِ تحصيلاً للمقصودِ، ومعنَى هذا أن الوسيلةَ الأقوى تُقَدَّمُ على غيرِها من الوسائلِ، هذا إذا تَفَاوَتَتِ الوسائلُ قوةً وَضَعْفًا.

 

 

 

 

 

 

أما إذا تَعَدَّدَتِ الوسائلُ وَتَسَاوَتْ وَأَفْضَتْ إلى مقصودٍ واحدٍ فلا شَكَّ أنها تَتَسَاوَى في نَظَرِ الشارعِ الحكيمِ بالنسبةِ إلى اعْتِبَارِهَا.

 

 

 

 

 

 

مثالُ هذا: قولُه تعالى: ﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ [النساء: 15].

 

 

 

 

 

 

فهذا خطابٌ عَامٌّ مقصودٌ به وقوعُ هذا العقابِ، قد يقومُ به وَلِيُّ أمرِ المرأةِ أو زَوْجُهَا أو القاضِي، لا فَرْقَ بينَ هذه الحالاتِ؛ لأنها متساويةٌ قوةً وَضَعْفًا في تحصيلِ المقصودِ، ألا وهو حَبْسُ المرأةِ.

 

 

 

 

 

 

ومعنَى هذا أن الوسيلةَ إذا لم تَتَعَيَّنْ لتحصيلِ المقصودِ -بمعنَى أنها تَعَدَّدَتْ وَتَنَوَّعَتْ- فإن الأخذَ بأيةِ وسيلةٍ جائزٌ، أما إذا تَعَيَّنَتِ الوسيلةُ بحيثُ لا يتحققُ المقصودُ إلا بها وَحْدَهَا فلا شَكَّ في وجوبِ الأخذِ بها في الواجبِ وَنَدْبِهِ في المندوبِ وهكذا.

 

 

 

 

 

 

وإليكَ بعضَ القواعدِ التي تَفَرَّعَتْ عن هذه القاعدةِ:

 

 

 

 

 

 

1- مَا لاَ يَتِمُّ الواجبُ إلا به فهو وَاجِبٌ، وَمَا لَا يَتِمُّ المندوبُ إلا به فهو مَنْدُوبٌ... وهكذا. وهي مِنْ أَشْهَرِ القواعدِ الأصوليةِ.

 

 

 

 

 

 

2- يُغْتَفَرُ في الوسائلِ ما لا يُغْتَفَرُ في المقاصدِ( ). 

 

 

 

 

 

 

فَكَمَا سَلَفَ فإنها أَقَلُّ منها في الرتبةِ؛ لذلك اغْتُفِرَ فيها ما لا يُغْتَفَرُ في المقصودِ لِذَاتِهِ. وكما أنهما لا يَسْتَوِيَانِ في الرتبةِ فكذلك لا يستويانِ في الأَجْرِ؛ فإن الشرعَ يُثِيبُ على الوسائلِ إلى الطاعاتِ كما يُثِيبُ على المقاصدِ مع تفاوتِ أجورِ الوسائلِ والمقاصدِ( ). 

 

 

 

 

 

 

3- الوسائلُ تابعةٌ للمقاصدِ، وليست هي المقصودةَ. 

 

 

 

 

 

 

4- الوسائلُ تدورُ مع الأحكامِ التكليفيةِ الخمسةِ، فقد تكونُ واجبةً أو مندوبةً، أو مُحَرَّمَةً، أو مكروهةً، أو مُبَاحَةً، كُلُّ ذلك على حَسَبِ المقاصدِ التي هي -أي: الوسائل- تَابِعَةٌ لها. 

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

الاسْتِطَاعَةُ بِهَا تَعَلَّقَا

 

 

 

 

 

 

وُجُوبُ مَا بِهِ أُمِرْنَا مُطْلَقَا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

هذا البيتُ تقريرٌ لقاعدةِ: (الوجوبُ يَتَعَلَّقُ بالاستطاعةِ؛ فَلَا وَاجِبَ مَعَ العَجْزِ). 

 

 

 

 

 

 

والمرادُ أن اللهَ تعالى لم يُوجِبْ علينا عندَ العجزِ شَيْئًا، فقدرةُ المرءِ واستطاعتُه شرطٌ في وجوبِ سائرِ ما أَوْجَبَهُ اللهُ تعالى على العبدِ، بحيثُ يسقطُ عنه الواجبُ عندَ العَجْزِ. 

 

 

 

 

 

 

المعنَى اللُّغويُّ لمصطلحِ الاستطاعةِ: الاستطاعةُ اسْتِفْعَالٌ من الطَّاعَةِ؛ فَسُمِّيَ الفاعلُ مُسْتَطِيعًا؛ لأن الفعلَ الذي يرُومُهُ مُمْكِنٌ مُطَاوِعٌ، وَتَسْمِيَتُهُ بذلك قبلَ الفعلِ على سبيلِ المجازِ، لأنَّ الاستطاعةَ من العبادِ لا تكونُ إلا مع الفعلِ( ). 

 

 

 

 

 

 

 وجاءَ في لسانِ العربِ: «قال الجوهريُّ: الاستطاعةُ الطاقةُ. قال ابنُ بَرِّيٍّ: هو كما ذُكِرَ، إلا أنَّ الاستطاعةَ للإنسانِ خاصةً، وَالطَّاقَة عَامَّةٌ؛ تقول: الجملُ مُطِيقٌ لحِمْلِهِ. ولا تقول: مُسْتَطِيعٌ. فهذا الفرقُ ما بينَهما، والاستطاعةُ: القدرةُ على الشيءِ، وهي استفعالٌ من الطاعةِ»( ).

 

 

 

 

 

 

المعنَى الاصطلاحيُّ للاستطاعةِ: عَرَّفَهَا بعضُ العلماءِ المعاصرينَ بقوله: «قدرةٌ يَتَمَكَّنُ بها المُكَلَّفُ من الإتيانِ بالتكاليفِ الشرعيةِ وَفْقًا لما رَسَمَهُ الشارعُ، بحيثُ يُؤَدِّي عدمُ وجودِها إلى سقوطِ التكليفِ أو إِبْدَالِهِ»( ).

 

 

 

 

 

 

معنَى الاستطاعةِ في القرآنِ والسُّنَّةِ: هذا وقد وَرَدَتْ مادةُ الاستطاعةِ في مواضعَ كثيرةٍ من القرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ المشرفةِ، وكلُّها لا تخرجُ عن المدلولِ اللغويِّ الذي ذَكَرْنَاهُ.

 

 

 

 

 

 

فعلى سبيلِ المثالِ من القرآنِ الكريمِ: 

 

 

 

 

 

 

1- قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ﴾ [البقرة: 282].

 

 

 

 

 

 

قال الإمامُ ابنُ جريرٍ الطبريُّ: «إِنَّ الموصوفَ بأنه لا يستطيعُ أن يُمِلَّ، هو الممنوعُ من إِمْلَالِهِ، إما بالحبسِ الذي لا يَقْدِرُ معه على حضورِ الكاتبِ الذي يكتبُ الكتابَ فَيُمِلّ عليه، وإما لغيبتِه عن موضعِ الإملالِ، فهو غيرُ قادرٍ من أجلِ غيبتِه عن إملالِ الكتابِ؛ فَوَضَعَ اللهُ جَلَّ وَعَزَّ عنهم فرضَ إملالِ ذلك، لِلْعِلَلِ التي وَصَفْنَا -إذا كانت بهم- وَعَذَرَهُمْ بِتَرْكِ الإملالِ من أَجْلِهَا، وَأَمَرَ عندَ سقوطِ فرضِ ذلك عليهم، وَلِيَّ الحَقِّ بِإِمْلَالِهِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

2- قال اللهُ تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [النساء: 25].

 

 

 

 

 

 

قال الطبريُّ: «مَنْ لَمْ يَقْدِرْ على نكاحِ الحُرَّةِ لعدمِ الطَّوْلِ، الذي هو الفضلُ والمالُ والسعةُ؛ فَلْيَنْكِحِ الأَمَةَ»( ).

 

 

 

 

 

 

وقال ابنُ العربيِّ: «إن الآيةَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الإبدالِ؛ لأنَّ اللهَ قَرَنَ النكاحَ بالقدرةِ التي رَتَّبَ عليها الإبدالَ، ومعناه أنه مَنْ لَمْ يَقْدِرْ أن يطأَ الحرةَ فَلْيَتَزَوَّجْ أَمَةً»( ).

 

 

 

 

 

 

3- قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: 139].

 

 

 

 

 

 

قال الطبريُّ: «لَنْ تُطِيقُوا أيها الرجالُ أن تَعْدِلُوا بينَ نسائِكم في حُبِّهِنَّ بقلوبِكم حتى تَعْدِلُوا بَيْنَهُنَّ»( ).

 

 

 

 

 

 

4- قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وقال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286] أي: لا يُكَلِّفُ أحدًا فوقَ طَاقَتِهِ، وهذا من لُطْفِهِ تعالى بِخَلْقِهِ، وَرَأْفَتِهِ بهم، وإحسانِه إليهم( ). 

 

 

 

 

 

 

قال تعالى: ﴿وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة: 286] قال اللهُ في الحديثِ القدسيِّ: «قَدْ فَعَلْتُ»( ). 

 

 

 

 

 

 

وأما عن معنَى الاستطاعةِ في السُّنَّةِ:

 

 

 

 

 

 

1- لمَّا نَزَلَ قولُ الله تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97] رُوِيَ عن أبي هريرةَ رضي الله تعالى عنه قال: خَطَبَنَا رسولُ الله ﷺ فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا» فقال رجلٌ: أَكُلَّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟! فَسَكَتَ: حتى قَالَهَا ثلاثًا. فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلمَا اسْتَطَعْتُمْ». ثم قال: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَدَعُوهُ»( ).

 

 

 

 

 

 

2- عن أبي رَزين العقيليِّ أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيعُ الحجَّ ولا العمرةَ ولا الظعنَ. فقال: «احْجُجْ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ»( ).

 

 

 

 

 

 

3- روى البخاريُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»( ).

 

 

 

 

 

 

العلاقةُ بينَ الاستطاعةِ والتكليفِ عندَ الفقهاءِ والأصوليينَ:

 

 

 

 

 

 

إن المتأملَ المستقرئَ لكتبِ الفقهِ والأصولِ المعتمدَة، يرى أن الفقهاءَ قد تَنَاوَلُوا كثيرًا قضيةَ الاستطاعةِ باعتبارِها شَرْطًا رئيسًا في التكاليفِ الشرعيةِ بوجهٍ عَامٍّ، والمتتبعُ لكلامِ الفقهاءِ والأصوليينَ في هذا الشأنِ يَرَى أنهم تارةً يُعَبِّرُونَ عن هذا المفهومِ بلفظِه المشهورِ وهو «الاستطاعةُ» وتارةً لا يُعَبِّرُونَ بهذا اللفظِ وإنما يعبرونَ بألفاظٍ أخرى مرادفةٍ تحملُ نفسَ المَعْنَى وتدورُ عليه مثلَ القدرةِ والطاقةِ وغيرِهما، وإليكَ ما يدلُّ على هذا بِاخْتِصَارٍ:

 

 

 

 

 

 

أولًا: المذهبُ الحنفيُّ: قال ابن نجيم في البحر الرائق: «إن كان مريضًا لَا يَقْدِرُ على الِاسْتِقْبَالِ، أو كان في فِرَاشِهِ نَجَاسَةٌ وَلَا يَقْدِرُ على التَّحَوُّلِ منه، وَوَجَدَ مَنْ يُحَوِّلُهُ وَيُوَجِّهُهُ، لَا يُفْتَرَضُ عليه ذلك عِنْدَهُ -أَيْ عندَ أَبِي حنيفةَ- وَعَلَى هذا الْأَعْمَى إذَا وَجَدَ قَائِدًا لَا تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ وَالْحَجُّ.

 

 

 

 

 

 

 وَالْخِلَافُ فِيهِمَا مَعْرُوفٌ؛ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَهُ -أَيْ: أبي حنيفةَ- لَا يُعْتَبَرُ الْمُكَلَّفُ قادرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُعَدُّ قَادِرًا إذَا اخْتَصَّ بِحَالَةٍ يَتَهَيَّأُ له الْفِعْلُ مَتَى أَرَادَ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ... وَعِنْدَهُمَا- أي: عندَ أَبِي يوسفَ وَمُحَمَّدٍ - تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ بِآلَةِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ آلَةَ الْغَيْرِ صَارَتْ كَآلَتِهِ بِالْإِعَانَةِ»( ).

 

 

 

 

 

 

ثَانِيًا عندَ المالكيةِ: جاءَ في حاشيةِ الدسوقيِّ: «أو خَافَ مَرِيدُ الصَّلَاةِ الذي معه المَاءُ؛ أَيْ: وَيَقْدِرُ على اسْتِعْمَالِهِ سَوَاءٌ كان حَاضِرًا صَحِيحًا أو مَرِيضًا أو مُسَافِرًا عَطشَ مُحْتَرَمٍ، ومِثْلُ الْعَطَشِ ضَرُورَةُ الْعَجْنِ وَالطَّبْخِ...تَيَمَّمَ»( ).

 

 

 

 

 

 

ثالثًا عندَ الشافعيةِ: قال البيجوريُّ: «القدرةُ على الصومِ شرطٌ للوجوبِ، معنَى القدرةِ على الصومِ إطاقتُه؛ فَمَنْ لا يُطِيقُهُ حِسًّا كالمريضِ ونحوِه، أو شَرْعًا كالحائضِ والنفساءِ؛ لا يجبُ عليهِ الصومُ»( ).

 

 

 

 

 

 

رابعًا عندَ الحنابلةِ: قال البهوتيُّ: «(وإذا وَجَدَ الأقطعَ ونحوَه) كالأشلِّ والمريضِ الذي لا يَقْدِرُ أن يُوَضِّئَ نفسَه (مَنْ يُوَضِّئُهُ أو يغسلُه بأجرةِ المثلِ وَقَدَرَ عليها من غيرِ إِضْرَارٍ) بنفسِه أو مَنْ تَلْزَمُهُ نفقتُه (لَزِمَهُ ذلك)؛ لأنه في معنَى الصحيحِ (فإن وَجَدَ مَنْ يُيَمِّمُهُ ولم يَجِدْ مَنْ يُوَضِّئُهُ لَزِمَهُ ذلك) كالصحيحِ يقدرُ على التيممِ دونَ الوضوءِ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) مَنْ يُوَضِّئُهُ ولا مَنْ يُيَمِّمُهُ بأن عجز عن الأجرةِ أو لم يَقْدِرْ على مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ (صَلَّى على حَسَبِ حالِه) قال في المُغْنِي: لا أعلمُ فيه خلافًا»( ).

 

 

 

 

 

 

الاستطاعةُ وأهميتُها عندَ الأصوليينَ:

 

 

 

 

 

 

يرى الشاطبيُّ - رحمه الله - أن شرطَ التكليفِ أو سَبَبَهُ القدرةُ على المُكَلَّفِ به، فما لا قدرةَ عليه؛ فلا يصحُّ التكليفُ به شَرْعًا( ). 

 

 

 

 

 

 

وفي كشفِ الأسرارِ لفخرِ الإسلامِ البزدويِّ (1/282): «الشيءُ الذي صَارَ الحَسَنَ لِعَيْنِهِ حَسَنًا لغيرِه بواسطتِه هي القدرةُ التي يَتَمَكَّنُ بها العبدُ من أداءِ ما لَزِمَهُ أي: يَقْدِرُ عليه, وذلك أي الشرطُ المذكورُ وهو القدرةُ, شرطُ الأداءِ أي شرطُ وجوبِ الأداءِ»( ).

 

 

 

 

 

 

وقال الزركشيُّ في البحرِ المحيطِ: «اعلم أنَّ الأُصُولِيِّينَ من الأشعرِيَّةِ والمُعتزِلةِ مُتّفِقُونَ على أَنَّ المأمُورَ بِالفِعلِ على وجهِ الِامتِثالِ إِنَّما يكُونُ مأمُورًا عِندَ القُدرةِ والِاستِطاعةِ »( )، ( ). 

 

 

 

 

 

 

وهذا يَدُلُّ على أن هذه القاعدةَ مَنَاطُهَا في المأمورِ به دونَ المنهيِّ عنه؛ إِذِ المنهيُّ عنه تَرْكٌ، والتركُ لا يحتاجُ إلى استطاعةٍ، وَاعْلَمْ أن الاستطاعةَ: استطاعةٌ مع الفعلِ، واستطاعةٌ قَبْلَ الفعلِ. 

 

 

 

 

 

 

وكلامُنا هنا عن الثانيةِ فهي التي يتعلقُ بها الخطابُ، قال الطحاويُّ: «والاستطاعةُ التي يجبُ بها الفعلُ، مِنْ نحوِ التوفيقِ الذي لا يجوزُ أن يُوصفَ المخلوقُ به، فهي مع الفعلِ، وأما الاستطاعةُ من جهةِ الصحةِ والوُسْعِ، والتمكنِ وسلامةِ الآلاتِ، فهي قَبْلَ الفعلِ، وبها يتعلقُ الخطابُ، وهو كما قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]. اهـ( ).

 

 

 

 

 

 

وَاعْلَمْ أن هذه القاعدةَ يتفرعُ عليها – كما قال الشيخُ السعديُّ رحمه الله – أنه لا واجبَ مع العجزِ، ولا مُحَرَّمَ مع الضرورةِ( ).

 

 

 

 

 

 

فإذا عجز المرءُ عن فعلِ الواجبِ سَقَطَ عنه، وإذا اضْطُرَّ إلى المحرمِ -أي: عجز عن عدمِ إتيانِه لضرورتِه حَلَّتْ به- لم يكن في حَقِّهِ مُحَرَّمًا، لَكِنْ بِالْقَدْرِ الذي تزولُ به الضرورةُ قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 173].

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

مَبْنَى الشَّرِيعَةِ عَلَى أَصْلَيْـنِ أَنْ

 

 

 

 

 

 

تُخْلِـصَ للهِ وَتَتْبَـعَ السُّنَـنْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

هذه القاعدةُ هي خُلاصةُ الإسلامِ، وَمُقْتَضَى الشهادتينِ، وهي أن شريعةَ الإسلامِ مبنيةٌ على أَصْلَيْنِ:

 

 

 

 

 

 

1 – إخلاصُ الدينِ لله تعالى. 

 

 

 

 

 

 

2 – ومتابعةُ الرسولِ ﷺ. 

 

 

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ لا يخرجُ عنها شيءٌ من دِينِ الله تعالى. 

 

 

 

 

 

 

قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 11]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ [النساء: 64].

 

 

 

 

 

 

وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ( ). 

 

 

 

 

 

 

وقال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]. 

 

 

 

 

 

 

قال ابنُ كثيرٍ: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ﴾ أَيْ: ثَوَابَهُ وجزاءَه الصالحَ ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾. 

 

 

 

 

 

 

وهو: ما كان مُوَافِقًا لشرعِ اللهِ: ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ وهو الذي يُراد به وجهُ اللهِ وحدَه لا شريكَ له، وهذانِ رُكْنَا العملِ المُتَقَبَّلِ، لا بد أن يكونَ خالصًا لله، صَوَابًا على شريعةِ رسولِ اللهِ ﷺ. اهـ( ). 

 

 

 

 

 

 

قال شيخُ الإسلامِ: «الإسلامُ مَبْنِيٌّ على أَصْلَيْنِ: 

 

 

 

 

 

 

أحدُهما: أن نعبدَ اللهَ وحدَه لَا شريكَ له.

 

 

 

 

 

 

والثاني: أن نعبدَه بما شَرَعَهُ على لسانِ رسولِه ﷺ لا نعبدُه بالأهواءِ والبِدَعِ، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئًا﴾ [الجاثية: 18 - 19]، وقال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: 21]( ).

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

وَالْعَقْلُ وَالحُلْمُ هُمَا التَّكْلِيفُ

 

 

 

 

 

 

وَلَمْ يَجِبْ بِدُونِ ذَا تَكْلِيفُ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

والرُّشْدُ وَالتَّكْلِيفُ لِلتَّصَرُّفَـاتْ

 

 

 

 

 

 

شَرْطٌ وَزِيدَ المِلْكُ لِلتَّبَرُّعَاتْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

واشْتُرِطَ التَّمْييزُ لِلْعِبَادَةِ

 

 

 

 

 

 

صَحَّا سِوَى الحَجِّ لَنَا وَالعُمْرَةِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

حَتْمُ التَّرَاضِي فِي المُعَاوَضَاتِ

 

 

 

 

 

 

وَفِـي الفُسُـوخِ وَالتَّبَرُّعَاتِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

هذه الأبياتُ تتعلقُ بالقاعدةِ التي نَصَّ عليها الشيخُ السعديُّ رحمه الله بقوله: «التكليفُ – وهو البلوغُ والعقلُ- شرطٌ لوجوبِ العباداتِ. والتمييزُ شرطٌ لصحتِها إلا الحجَّ والعمرةَ. وَيُشْتَرَطُ لصحةِ التصرفِ التكليفُ والرشدُ، ولصحةِ التبرعِ التكليفُ والرُّشدُ والِملكُ».

 

 

 

 

 

 

وفي النظم تبيين ماهية التكليفِ وشروطه، وهي:

 

 

 

 

 

 

وَالْعَقْلُ وَالحُلْمُ هُمَا التَّكْلِيفُ

 

 

 

 

 

 

وَلَمْ يَجِبْ بِدُونِ ذَا تَكْلِيفُ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

لقد اشْتَمَلَ هذا البيتُ على اصطلاحاتٍ ثلاثٍ ينبغي إيضاحُها، وهي: التكليفُ، والعقلُ، والحُلمُ. والأولُ مشروطٌ، والثانِي والثالثُ شرطانِ يتحققُ بهما المشروطُ.

 

 

 

 

 

 

أما الأولُ وهو التكليفُ فمعناه اللغويُّ مأخوذٌ من الكُلفةِ بمعنَى المشقةِ؛ يُقال: كَلَّفَهُ تَكْلِيفًا؛ أَيْ: أَمَرَهُ بما يَشُقُّ عليه، وَتَكَلَّفْتَ الشيءَ: تَجَشَّمْتهُ على مشقةٍ وعلى خلافِ عادتك( ). 

 

 

 

 

 

 

والمكلَّفُ هو المُخَاطَبُ بالتكاليفِ الشرعيةِ من الأوامرِ والنواهِي، وهي التي يترتبُ عليها الثوابُ أو العقابُ.

 

 

 

 

 

 

والمكلفُ: هو البالغُ العاقلُ، ووُصِفَ بذلك لِلُزُومِ العباداتِ له، والعباداتُ نوعُ إلزامٍ وتكليفٍ، وإن كان ليس فيها مشقةٌ، لكن الإنسانَ مُلْزَمٌ بها( ). 

 

 

 

 

 

 

أما تعريفُه اصطلاحًا: فهناك اتجاهانِ مشهورانِ بينَ الأصوليينَ في ماهيةِ التكليفِ؛ هل هو إلزامٌ أو طَلَبٌ؟

 

 

 

 

 

 

فَمَنْ عَرَّفَهُ بالإلزامِ قال: إلزامُ ما فيه كلفةٌ ومشقةٌ. ويترتبُ على ذلك أن كلًّا من المباحِ والمندوبِ والمكروهِ ليس من التكليفِ؛ لأنه لا إلزامَ في شيء منها.

 

 

 

 

 

 

وَمَنْ عَرَّفَهُ بأنه طلبُ ما فيه كلفةٌ ومشقةٌ، أَخْرَجَ المباحَ من بابِ التكليفِ؛ لأنه لا طَلَبَ فيه، على أن بعضَ الأصوليينَ يرى أن المباحَ يدخلُ في بابِ التكليفِ؛ لأنه يُكْمِلُ القسمةَ العقليةَ للأحكامِ الشرعيةِ، وكذلك لأنه يجبُ اعتقادُ مشروعيتِه فَاعْتُبِرَ هذا الوجوبُ تكليفًا( ).

 

 

 

 

 

 

ولا يبنى على ذلك فرع، قال في المراقي  :

 

 

 

 

 

 

قد كُلِّفَ الصَّبِي على الذي اعتُمِي

 

 

 

 

 

 

بغير ما وجب والمُحَرَّمِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

وَهُوَ إِلْزَامُ الَّذِي يَشُقُّ

 

 

 

 

 

 

أَوْ طَلَب فَاه بِكُلِّ خَلْقِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

لَكِنَّهُ لَيْسَ يُفِيدُ فَرْعَا

 

 

 

 

 

 

فَلَا تَضِقْ لِفَقْدِ فَرْعٍ ذَرْعَا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

وفي النظم إشارة -تَبَعًا للأصلِ- أنَّ التكليفَ يشترطُ فيه شرطانِ: العقلُ وبلوغُ الحُلمِ.

 

 

 

 

 

 

أما الشرطُ الأولُ وهو العقلُ، فقد اختلف العلماءُ في تعريفِه وماهيتِه؛ على أقوال( ):

 

 

 

 

 

 

1- قال بعضُهم: «إنه قوةٌ طبيعيةٌ يُفْصَلُ بها بينَ حقائقِ المعلوماتِ».

 

 

 

 

 

 

2- وقال بعضُهم: «هو جوهرٌ لطيفٌ يُفْصَلُ به بينَ حقائقِ المعلوماتِ الضروريةِ».

 

 

 

 

 

 

3- وقال بعضُهم وهو القاضِي البَاقِلَّانِيُّ: «إنه نفسُ العلومِ الضروريةِ» كالعلمِ باستحالةِ اجتماعِ الضِّدَّيْنِ، وكالعلمِ بأنَّ المعلومَ لا يخرجُ عن كونِه مَعْدُومًا أو موجودًا، وأنَّ الموجودَ لا يَخْلُو عن الاتصافِ بالقِدَمِ أو الحُدُوثِ.

 

 

 

 

 

 

وينقسمُ العقلُ إلى قِسْمَيْنِ( ):

 

 

 

 

 

 

1- عقلٌ مطبوعٌ، ويسمَّى جِبِلِّيًّا أو غَرِيزِيًّا، وهو مجموعةُ العلومِ الضروريةِ التي تُمَيِّزُ الإنسانَ عن غيرِه من أنواعِ الحيواناتِ، ونستطيعُ أن نقولَ: إنه العقلُ الذي وُلِدَ به الإنسانُ، وهذا العقلُ هو مناطُ التكليفِ.

 

 

 

 

 

 

2- عقلٌ مسموعٌ، وَيُسَمَّى كَسْبِيًّا، وهو مجموعةُ العلومِ والمعارفِ التي اكْتَسَبَهَا الإنسانُ أثناءَ حياتِه، سواءً أكانت علومَه التي اكتسبها من علومِ الدينِ كعلومِ القرآنِ والتفسيرِ والحديثِ والفقهِ وأصولِه، أو من علومِ الدنيا كالطِّبِّ والفَلَكِ والكيمياءِ والرياضياتِ وغيرِها؛ فَكُلُّهَا علومٌ اكتسبها الإنسانُ وَتَعَلَّمَهَا من غيرِه، وهي ليست مناطَ التكليفِ، وإن كان الإنسانُ مُحَاسَبًا عليه بالثوابِ إن أَخْلَصَ وَأَنْفَقَهُ في سبيلِ الله تعالى، أو العقابِ إن طَلَبَهُ رياءً وسمعةً أو اسْتَخْدَمَهُ فيما لا يُرْضِي اللهَ سبحانه وتعالى، وهذا واضحٌ لا يحتاجُ إلى تفصيلِ الأدلةِ فيه. 

 

 

 

 

 

 

وعلى ذلك فالناسُ لا يتفاضلونَ في العقلِ الأولِ أي ما به التكليفُ، وَيَتَفَاوَتُونَ في العقلِ الثانِي؛ بناءً على توفيقِ اللهِ تعالى لعبادِه، ثم كثرةِ تجاربِهم واجتهادِهم في شتَّى العلومِ والمعارفِ.

 

 

 

 

 

 

قال شيخ الإسلام في در التعارض: ويراد بالعقل: الغريزة، فهنا يكون أحدهما غير الآخر، ولا ريب أن مسمى العلم بهذا الاعتبار أشْرَفُ مِنْ مُسَمَّى العقل؛ فإن مسمى العلم هنا كلام الله تعالى، وكلام الله أشرف مِنَ الغَرِيزَة التي يشترك فيها المسلم والكافر، وأيضًا فقد تسمى العلوم المسموعة عقلًا، كما قيل:

 

 

 

 

 

 

رَأَيْتُ العَقْلَ عَقْلَيْنِ

 

 

 

 

 

 

فَمَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعُ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

فَلَا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ

 

 

 

 

 

 

إِذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

كَمَا لَا تَنْفَعُ الْعَيْنُ

 

 

 

 

 

 

وَضَوْءُ الشَّمْسِ مَمْنُوعُ( )

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

أما الشرطُ الثاني وهو الحُلمُ، فالمرادُ به البلوغُ، والبلوغُ لغةً: الوصولُ، يقال: بَلَغَ الشيءُ يَبْلُغُ بلوغًا وَبَلَاغًا: وَصَلَ وَانْتَهَى، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ: احْتَلَمَ وَأَدْرَكَ وقتَ التكليفِ، وكذلك بَلَغَتِ الفتاةُ( ).

 

 

 

 

 

 

واصطلاحًا: انتهاءُ حدِّ الصِّغَرِ في الإنسانِ؛ ليكونَ أَهْلًا للتكاليفِ الشرعيةِ.

 

 

 

 

 

 

وعلى هذا فمعنَى قوله: «فالعقلُ والحلمُ هما التكليفُ» أَيْ: هُمَا شَرْطَا التكليفِ بالأوامرِ والنواهِي الشرعيةِ؛ فيخرجُ المجنونُ والصغيرُ، فلا يُطَالَبَانِ بالأحكامِ الشرعيةِ ابتداءً ولا يعاقبانِ على تَرْكِهَا انتهاءً. 

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

والرُّشْدُ وَالتَّكْلِيفُ لِلتَّصَرُّفَاتْ

 

 

 

 

 

 

شَرْطٌ وَزِيدَ المِلْكُ لِلتَّبَرُّعَاتْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

في البيتِ السابقِ كان الكلامُ عن التكليفِ وَشَرْطَيْهِ، وهنا الكلامُ عن أمرينِ: 

 

 

 

 

 

 

الأولُ: صحةُ التصرفاتِ الماليةِ يُشْتَرَطُ لها مع التكليفِ الرشدُ. 

 

 

 

 

 

 

الثاني: صحةُ التبرعاتِ يُشْتَرَطُ لها مع التكليفِ الرشدُ والمِلْكُ. 

 

 

 

 

 

 

أما الأولُ: فينبغي أولًا معرفةُ حدِّ الرُّشدِ وحقيقتِه، فالرُّشْدُ فِي اللُّغَةِ: الصَّلاحُ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ وَالاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ، وَهُوَ خِلافُ الْغَيِّ وَالضَّلالِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: رَشِدَ رُشْدًا مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَرَشَدَ يَرْشُدُ مِنْ بَابِ قَتَلَ، فَهُوَ رَاشِدٌ، وَالاسْمُ الرَّشَادُ( ).

 

 

 

 

 

 

وحقيقتُه في اصطلاحِ الفقهاءِ قريبٌ من هذا المعنَى؛ فهو ضدُّ السَّفَهِ والتبذيرِ وعدمِ القدرةِ على تمييزِ ما ينفعُ وما يضرُّ في التصرفاتِ الماليةِ.

 

 

 

 

 

 

قال ابن رشد: حدُّه حُسْنُ النظرِ في المالِ وَوَضْعُ الأمورِ في مواضعها( ).

 

 

 

 

 

 

هذا وقد تَفَرَّقَتْ أحكامُ الرُّشدِ في أبوابٍ كثيرةٍ من الفقهِ الإسلاميِّ؛ كالحَجْرِ على السَّفيهِ ثم الْبَيْعِ، والشَّرِكَةِ، والْوَكَالَةِ، وَالضَمَانِ، والإعارةِ، وَالإِقْرَارِ، والْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ، وولايةِ النِّكَاحِ، وَفِي رِضَا الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ، وَفِي الْخُلْعِ، وفِي شُرُوطِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِلِ، وَفِي حَاضِنِ اللَّقِيطِ.

 

 

 

 

 

 

وأغلبُها أمورٌ تتعلقُ بالتصرفاتِ الماليةِ.

 

 

 

 

 

 

وقد بَحَثَ العلماءُ في عدةِ قضايا تتعلقُ بالرشدِ؛ أولُها السنُّ المُعْتَبَرُ في الرشدِ، والأمورُ أو الصفاتُ التي يكونُ بها الإنسانُ رشيدًا، وكذلك الأحكامُ المترتبةُ على فَقْدِ الإنسانِ لصفةِ الرُّشدِ في التصرفاتِ.

 

 

 

 

 

 

أما عن السنِّ المُعْتَبَرِ في الرُّشد؛ فيرى الجمهورُ من الفقهاء( ) عدا أبي حنيفةَ أنَّ الرُّشْدَ المُعْتَبَرَ في التصرفات لا بد أن يكونَ بعدَ بلوغِ الصبيِّ، وَرَتَّبُوا على ذلك أنَّ دفعَ المالِ لليتيمِ الرشيدِ لا يكونُ إلا بعدَ البلوغِ، واستدلوا بقولِه تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 5]، مع قولِه تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6]. 

 

 

 

 

 

 

 فَاشْتَرَطَ الحقُّ سبحانَه لدفعِ المالِ إلى اليتيمِ شَرْطَيْنِ: إيناسُ الرشدِ، والبلوغُ، فإن وُجِدَ أحدُهما دونَ الآخَرِ لم يَجُزْ تسليمُ المالِ، كما نَصَّتِ الآيةُ( ).

 

 

 

 

 

 

ويرى الإمامُ أبو حنيفةَ( ): أنه إذا بلغَ الغُلامُ غيرَ رشِيدٍ لم يُسلَّمْ إليهِ مالُهُ حتَّى يبلُغ خمسًا وعِشرِين سنةً، فإِن تصرَّف فِيهِ قبل ذلِك نَفَذَ تصرُّفُهُ، فإِذا بَلَغَ خمسًا وعِشْرِينَ سنةً يُسلَّمُ إليهِ مالُهُ وإِن لم يُؤنس مِنهُ الرُّشدُ.

 

 

 

 

 

 

واستدل الإمامُ أبو حنيفةَ بالإطلاقِ الواردِ في قولِه تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 2].

 

 

 

 

 

 

وَالْمُرَادُ منه بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلِأَنَّ حَالَ الْبُلُوغِ قد لَا يُفَارِقُهُ السَّفَهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَاءِ، فَقَدَّرهُ أبو حنيفةَ رحمه الله بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ لما رُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قال: «يَنْتَهِي لُبُّ الرَّجُلِ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً» وقد قال أَهْلُ الطَّبَائِعِ: «إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ». 

 

 

 

 

 

 

وعلى ذلك فإذا فُقِدَ الرشدُ -وهو حُسْنُ التصرفِ في المالِ، والقدرةُ على تدبيرِه، وعدمُ الإسرافِ فيه وتبذيره- استحقَّ الإنسانُ بذلك الحَجْرَ عليه والمنعَ من التصرفاتِ الماليةِ؛ لأنه بفقدانِ الرشدِ صَارَ غيرَ مُؤَهَّلٍ للتصرفِ الماليِّ.

 

 

 

 

 

 

 وتقييدُ الرشدِ بالقدرةِ على الحفاظِ على المالِ وإصلاحِه دونَ الدّينِ هو مذهبُ الجمهورِ؛ المالكيةِ والحنابلةِ والأحنافِ، بينما يرى الشافعيُّ أن الرُّشْدَ هو الصلاحُ في الدينِ والمالِ معًا. ويَدُلّ لِقَوْلِ الجُمْهور أنَّ العدالةَ لا تُعْتَبَرُ في الرشدِ في الدوامِ فلا تعتبرُ في الابتداءِ، ولأنَّ هذا مُصْلِحٌ لماله فأشبهَ العدلَ، ولأنَّ الحَجْرَ إنما يكونُ لحِفْظِ مالِه عليه، لا لِقِلَّةِ دِينِهِ فيه، فالمؤثرُ فيه ما أَثَّرَ في تضييعِ المالِ، أو حفظه، ثم إن قلنا هذا في المسلمِ فماذا نقول في الكافرِ؟ فالمسلمُ -وإن فَسَقَ- يُمكَّنُ من مَالِهِ ما دام فيه رَشِيدًا أَخْذًا وَعَطَاءً( ).

 

 

 

 

 

 

والأمرُ الثانِي: التبرعاتُ الماليةُ؛ يُشْتَرَطُ لها مع التكليفِ والرشدِ المِلْكُ؛ فَفَاقِدُ الشيءِ لا يُعْطِيهِ، ومعلومٌ أنَّ التبرعَ عطاءٌ بدونِ مُقَابِلٍ، ونفقةٌ من غيرِ عَائِدٍ؛ لِذَا لَزِمَ فاعلَها أن يكونَ مالكًا لها رشيدًا في أَدَائِهَا حتى يَعْتَبِرَهَا الشرعُ وَيَقْبَلَهَا.

 

 

 

 

 

 

وَلِذَا سُئِلَ أبو هريرةَ في المرأةِ تَصَدَّقُ من بيتِ زوجِها؟ قال: لا، إلا من قُوتِهَا، والأَجْرُ بينَهما، ولا يَحِلُّ لها أن تَصَدَّقَ من مالِ زَوْجِهَا إلا بإذنه( ).

 

 

 

 

 

 

قال الإمامُ النوويُّ: «وَاعْلَمْ أنه لا بُد للعاملِ وهو الخازنُ وللزوجةِ والمملوكِ من إِذْنِ المالكِ في ذلك، فإن لم يكن أَذِنَ أَصْلًا فلا أجرَ لأحدٍ من هؤلاء الثلاثةِ، بل عليهم وِزْرٌ بتصرفِهم في مالِ غيرِهم بغيرِ إِذْنِهِ، والإِذْنُ ضَرْبَانِ:

 

 

 

 

 

 

أحدُهما: الإذنُ الصريحُ في النفقةِ والصَّدَقَةِ.

 

 

 

 

 

 

والثاني: الإذنُ المفهومُ من اطرادِ العُرْفِ والعادةِ كإعطاءِ السائلِ كسرةً ونحوَها مما جَرَتِ العادةُ به وَاطَّرَدَ العرفُ فيه، وعُلِمَ بالعرفِ رِضَا الزوجِ والمالكِ به، فَإِذْنُهُ في ذلك حاصلٌ وإن لم يَتَكَلَّمْ، وهذا إذا عُلِمَ رِضَاهُ لاطرادِ العرفِ، وَعُلِمَ أن نفسَه كنفوسِ غالبِ الناسِ في السماحةِ بذلك والرِّضَا به، فإن اضطرب العرفُ وَشُكَّ في رضاه أو كان شخصًا يشِحُّ بذلك، وَعُلِمَ من حالِه ذلك، أو شُكَّ فيه، لم يَجُزْ للمرأةِ وغيرِها التصدقُ من مالِه إلا بصريحِ إِذْنِهِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

ولا بد من هذا التقريرِ الذي ليس بعدَه مزيدٌ حتى لا يسوءَ فَهْمُكَ لحديثِ رسولِ الله ﷺ: «إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

واشْتُرِطَ التَّمْييزُ لِلْعِبَادَةِ

 

 

 

 

 

 

صَحَّا سِوَى الحَجِّ لَنَا وَالعُمْرَةِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

المرادُ من هذه القاعدةِ أن الصبيَّ الذي لم يبلغ وإن كانت لا تجبُ عليه العباداتُ، إلا أنه يُشْتَرَطُ في صحةِ هذه العباداتِ التمييزُ.

 

 

 

 

 

 

فالعباداتُ كالصلاةِ والصيامِ والحجِّ لا تَجِبُ على الصبيِّ بالاتفاقِ، فَإِنْ فَعَلَهَا فإنها لا تُوصَفُ بالصحةِ إلا إذا كان الصبيُّ مُمَيِّزًا.

 

 

 

 

 

 

تعريفُ التمييزِ لغةً واصطلاحًا:

 

 

 

 

 

 

التَّمْيِيزُ لُغَةً: مَصْدَرُ مَيَّزَ. يُقَالُ: مَازَ الشَّيْءَ إِذَا عَزَلَهُ وَفَرَزَهُ وَفَصَلَهُ، وَتَمَيَّزَ الْقَوْمُ وَامْتَازُوا: صَارُوا فِي نَاحِيَةٍ. وَامْتَازَ عَنِ الشَّيْءِ تَبَاعَدَ مِنْهُ، وَيُقَالُ: امْتَازَ الْقَوْمُ إِذَا تَمَيَّزَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. 

 

 

 

 

 

 

والفُقهاءُ يقُولُون: سِنُّ التَّميِيزِ، ومُرادُهُم بِذلِك تِلك السِّنُّ الَّتِي إِذا انْتَهَى إِليها الصَّغِيرُ عَرَفَ مَضَارَّهُ وَمَنَافِعَهُ، وَكَأَنَّهُ مأخُوذٌ مِن مَيَّزْتُ الأشياءَ إِذا فرَّقت بين خيرِها وشرِّها بعدَ المعرِفةِ بِها( ).

 

 

 

 

 

 

وهناك أحكامٌ خلافيةٌ كثيرةٌ للصبيِّ المُمَيِّزِ؛ منها صحةُ إسلامِه ابتداءً، وقبولُ شهادتِه، وقبولُ أخبارِه وروايتِه، ومنها صحةُ تَصَرُّفَاتِهِ الماليةِ، وما يحلُّ للمميز النظرُ إليه من المرأةِ الأجنبيةِ، وتخييرُ الصبيِّ المميزِ بين أبيه أو أمه في الحضانةِ، إلى غير ذلك من الأحكامِ التي لا مجالَ لتفصيلِها هنا؛ نظرًا لِبُعْدِهَا عن موضوعِنا هنا ألا وهو اشتراطُ التمييزِ لصحةِ العبادةِ من الصبيِّ، بَيْدَ أنَّ حُكْمًا من الأحكامِ الفقهيةِ للصبيِّ المميزِ نحتاجُ إلى بسطِ القولِ فيه؛ نظرًا لِتَعَلُّقِهِ بقضيةِ العباداتِ؛ ألا وهو صحةُ الإمامةِ من الصبيِّ المميزِ؛ فهل تصحُّ الصلاةُ خلفَه بناءً على أنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ صلاتُه لنفسِه صَحَّتْ صلاتُه لغيرِه كما هو معلومٌ، أو لا تَصِحُّ الصلاةُ خلفَه بناءً على أنه يُتَصَوَّرُ منه وقوعُ الخللِ في الصلاةِ فلا يُؤْتَمَنُ على صلاةِ نفسِه فَضْلاً عن غيرِه؟

 

 

 

 

 

 

للعلماءِ في ذلك مَذْهَبَانِ:

 

 

 

 

 

 

المذهبُ الأولُ( ): ذَهَبَ الحنفِيةُ والمالِكِيةُ والحنابِلةُ والأوزاعِيُّ إِلى أن إِمامةَ الصبِيِّ المُميزِ لِلبالِغِ فِي الفرضِ لا تصِحُّ في الفرضِ وتصحُّ في النفلِ؛ لأن الإِمامةَ حالُ كمالٍ، والصبِيُّ ليس مِن أهلِ الكمالِ؛ ولأنهُ لا يُؤْمَنُ مِنهُ الإِخلالُ بِشرطٍ مِن شرائِطِ الصلاةِ. 

 

 

 

 

 

 

المذهبُ الثاني( ): يرى الشافِعِيةُ والحسنُ البصرِيُّ وإِسحاقُ وابنُ المُنذِرِ أن إِمامتَهُ لِلبالِغِ صحِيحةٌ وإن كانت صلاةَ جُمْعَةٍ؛ لِعُمُومِ حديثِ أبي مسعودٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتابِ اللهِ»( ) ولِما رُوِي مِن أن بعضَ الصحابةِ رضِي اللهُ عنهُم كانُوا يؤُمون أقوامَهُم وهُم دُونَ سِنِّ البُلُوغِ - أبناءُ سبعِ سِنِين أو ثمانِي سِنِين - فقد ثَبَتَ أن عمرَو بنَ سلمةَ كان يؤُم قومَه على عهدِ رسُولِ اللهِ ﷺ وهُو ابنُ سِتِّ أو سبعِ سِنِين( ).

 

 

 

 

 

 

وأصحابُ هذا المذهبِ لا يُجَوِّزُونَ إمامةَ الصبيِّ المميزِ إلا إذا كان عَالِمًا بأحكامِ الصلاةِ وما يُبْطِلُهَا مُجِيدًا لقراءةِ القرآنِ الكريمِ وأحكامِ تلاوتِه، ومع ذلك فَهُمْ لا يَسْتَحِبُّونَ ذلك في وجودِ البالغِ القارئِ، ولا يُسَوُّونَ بينَهما بِحَالٍ. 

 

 

 

 

 

 

قال الشافعيُّ رحمه الله: «إِذَا أَمَّ الغُلامُ الذي لم يبلُغ الذي يعقِلُ الصَّلاةَ ويقرأُ الرِّجالَ البالِغِينَ، فإذا أقام الصّلاةَ أجزأتهُم إمامتُهُ، والِاختِيارُ أن لا يؤُمَّ إِلَّا بالِغٌ وأن يكُون الإِمامُ البالِغُ عالِمًا بِما لَعَلَّهُ يعرِضُ له في الصَّلاةِ».

 

 

 

 

 

 

والذي نَخْتَارُهُ المذهبُ الثاني لقوةِ أَدِلَّتِهِ وصحةِ الأحاديثِ التي استدلَّ بها أصحابُ هذا المذهبِ.

 

 

 

 

 

 

واستثنى أهلُ العلمِ من ذلك الحجَّ والعمرةَ، واستثناؤهم هذا مَبْنِيٌّ على دليلٍ وهو حديثُ ابنِ عباسٍ رضي الله تعالى عنهما أن النبيَّ ﷺ لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ، فقال: «مَنِ الْقَوْمُ؟» قالوا: المسلمونَ. فقالوا: مَنْ أَنْتَ؟ قال: «رَسُولُ اللهِ» فَرَفَعَتْ إليه امرأةٌ صَبِيًّا فقالت: أَلِهَذَا حَجٌّ قال: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ» ( ). 

 

 

 

 

 

 

قال الإمامُ النوويُّ: فيه حجةٌ للشافعيِّ ومالكٍ وأحمدَ وجماهيرِ العلماءِ أن حجَّ الصبيِّ منعقدٌ صحيحٌ يُثَابُ عليه وإن كان لا يَجْزِيهِ عن حجةِ الإسلامِ، بل يقعُ تَطَوُّعًا، وهذا الحديثُ صريحٌ فيه... قال القاضِي: لا خلافَ بينَ العلماءِ في جوازِ الحجِّ بالصبيانِ، وإنما مَنَعَهُ طائفةٌ من أهلِ البدعِ، ولا يُلْتَفَتُ إلى قولِهم، بل هو مردودٌ بفعلِ النبيِّ ﷺ وأصحابِه وإجماعِ الأُمَّةِ... قال القاضي: «وَأَجْمَعُوا على أنه لا يُجْزِئُهُ إذا بَلَغَ عن فريضةِ الإسلامِ إلا فِرْقَةً شَذَّتْ فقالت: يُجْزِئُهُ، ولم يَلْتَفِتِ العلماءُ إلى قولهِا»( ). 

 

 

 

 

 

 

قلتُ: ودليلُ هذا ما رَوَاهُ الحاكمُ والطبرانيُّ في الأوسطِ وغيرُهما عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بَلَغَ الحِنْثَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ ثُمَّ هَاجَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ عَتَقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى»( ). 

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

حَتْــمُ التَّرَاضِــي فِي الْمُعَاوَضَــاتِ

 

 

 

 

 

 

وَفِـي الفُسوخِ وَالتَّبَرُّعَاتِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

قَسَّمَ العلماءُ العقودَ باعتبارِ وجودِ العِوَضِ في العقدِ وعدمِ وجودِه إلى قِسْمَيْنِ:

 

 

 

 

 

 

القسمُ الأولُ: عقودُ المُعَاوَضَةِ، وهي العقودُ التي تشتملُ على عِوَضٍ، كالبيعِ، والسَّلَمِ، والصَّرْفِ، وَالصُّلْحِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالمُضَارَبَةِ، وَالمُزَارَعَةِ، وَالمُسَاقَاةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَنَحْوِهَا.

 

 

 

 

 

 

القسمُ الثاني: عقودُ التبرعاتِ وهي العقودُ التي لا تشتملُ على عِوَضٍ مثلَ: عقدِ الهِبةِ، والعارِيَّةِ، والودِيعةِ، والوكالةِ، والرَّهْنِ، والوصِيَّةِ ونحوِها.

 

 

 

 

 

 

وَالْفَرْقُ بينَ عقودِ المعاوضاتِ والتبرعاتِ فِي أَنَّ الوفاءَ بِما يَتَعَهَّدُهُ العاقِدانِ فِي عُقُودِ المُعاوضةِ كالبيعِ والإِجارةِ ونحوِهِما واجِبٌ، إِذا تَمَّتْ صحِيحة بِشُرُوطِها، عَمَلًا بِقولِهِ تعالى: ﴿أوفُوا بِالعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]؛ لأَنَّ فِي عدمِ الوفاءِ بِها ضررًا لِلعاقِدِ الآخَرِ؛ لِضياعِ ما بَذَلَهُ مِن العِوضِ فِي مُقابلتِهِ، بِخِلافِ عُقُودِ التَّبَرُّعِ، كالهِبةِ، والعارِيَّةِ، وَالقَرْضِ، والوصِيَّةِ، ونحوِها، فلا يجِبُ الوفاءُ فِيها بِما تَعَهَّدَ المُتبرِّعُ؛ لأنّهُ مُحسِنٌ، وما على المُحسِنِين مِن سبِيلٍ، مع تفصِيلٍ فِي مُختلفِ العُقُودِ( ). 

 

 

 

 

 

 

ومع ذلِك فإِنَّ الفُقهاءَ صَرَّحُوا بِاستِحبابِ الوفاءِ فِي عُقُودِ التّبرُّعِ؛ لأَنَّهَا مِن البِرِّ والإِحسانِ، وقد حثَّ الشّارِعُ عليهِما فِي أكثرَ مِن موضِعٍ، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2].

 

 

 

 

 

 

ألا أن ابنَ شبرمةَ - من الفقهاءِ المجتهدينَ - قد أَوْجَبَ الوفاءَ بالعقدِ مُطْلَقًا معاوضةً كان أو تَبَرُّعًا؛ لأن مذهبَه وجوبُ الوفاءِ بالوعدِ ديانةً وقضاءً، وقد نَقَلَ عنه هذا القولَ ابنُ حَزْمٍ في كتابِه المُحَلَّى، في بحثٍ مَاتِعٍ في الخلافِ في قضيةِ الإلزامِ بالوعدِ، أَنْقُلُ لَكَ بَعْضًا منه على أن تُرَاجِعَهُ أخي القارئُ بِتَمَامِهِ من المُحَلَّى؛ فإنه في غايةِ النفاسةِ، قال ابنُ حَزْمٍ رحمه الله:

 

 

 

 

 

 

«وَمَنْ وَعَدَ آخَرَ بأن يُعْطِيَهُ مالًا مُعَيَّنًا أو غيرَ مُعَيَّنٍ، أو بأن يُعِينَهُ في عَمَلٍ ما -حَلَفَ له على ذلك أو لم يَحْلِفْ- لم يَلْزَمْهُ الوفاءُ به، وَيُكْرَهُ له ذلك، وكان الأفضلُ لو وَفَّى به، وسواء أَدْخَلَهُ بذلك في نَفَقَةٍ أو لم يُدْخِلْهُ، كمن قال: تَزَوَّجْ فلانةَ وأنا أُعِينُكَ في صَدَاقِهَا بكذا وكذا، أو نحوِ هذا - وهو قولُ أبي حنيفةَ، والشافعيِّ، وأبي سليمانَ.

 

 

 

 

 

 

وقال مَالِكٌ: لا يَلْزَمُهُ شيءٌ من ذلك إلا أن يُدْخِلَهُ بوعدِه ذلك في كُلْفَةٍ فيلزمه ويقضي عليه.

 

 

 

 

 

 

وقال ابنُ شبرمةَ: الوعدُ كُلّهُ لازمٌ، ويقضي به على الواعدِ وَيُجْبَرُ.

 

 

 

 

 

 

فأما تقسيمُ مَالِكٍ: فلا وَجْهَ له ولا برهانَ يُعَضِّدُهُ، لا من قُرْآنٍ، ولا سُنَّةٍ، ولا قولِ صاحبٍ، ولا قياسٍ. فَإِنْ قالوا: قد أضرَّ به؛ إِذْ كَلَّفَهُ من أجلِ وَعْدِهِ عَمَلًا وَنَفَقَةً.

 

 

 

 

 

 

قلنا: فَهَبْكُمْ أنه كما تَقُولُونَ مِنْ أين وَجَبَ على من أَضَرَّ بِآخَرَ، وَظَلَمَهُ وَغَرَّهُ أن يَغْرَمَ له مالًا؟ ما عَلِمْنَا هذا في دينِ اللهِ تعالى إلا حيثُ جاء به النصُّ فقط: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق: 1].

 

 

 

 

 

 

وأما مَنْ ذَهَبَ إلى قولِ ابن شبرمةَ فإنهم احْتَجُّوا بقولِ اللهِ تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 3] والخبرُ الصحيحُ من طريقِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو عن رسولَ اللهِ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». والآخر: الثابت من طريقِ أبي هريرةَ عن النبيِّ: «مِنْ عَلَامَةِ النِّفَاقِ ثَلَاثَةٌ - وَإِنْ صَلَّى، وَصَامَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ: - إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ». فهذانِ أَثَرَانِ في غايةِ الصحةِ»( ).

 

 

 

 

 

 

وقد خَرَجَ على هذا القولِ جماعةٌ من الفقهاءِ المعاصرينَ كالشيخِ القرضاويِّ حَفِظَهُ اللهُ وَتَابَعَهُ جماعةٌ من العلماءِ والمجامعِ الفقهيةِ فِي مُعَامَلَةِ بيعِ المرابحةِ للآمِرِ بالشراءِ، الذي تُجْرِيهِ اليومَ كثيرٌ من المصارفِ الإسلاميةِ تَخَلُّصًا من الربا المُحَرَّمِ وَدَفْعًا لعَجَلَةِ الاستثمارِ في هذه البنوكِ الإسلاميةِ، فَرَاجِعْ -يَرْحَمُكَ اللهُ- كتابَ الدكتورِ القرضاويِّ: (بَيْعُ المُرَابَحَةِ لِلْآمِرِ بِالشِّرَاءِ) الذي طُبِعَ بمكتبةِ وهبةَ بالقاهرةِ؛ ففيهِ الكثيرُ من الفوائدِ الاجتهاديةِ. 

 

 

 

 

 

 

ولقد أقام اللهُ سبحانَه المعاملاتِ بين خَلْقِهِ على التَّرَاضِي؛ لأنه من المقررِ في الشريعةِ الإسلاميةِ أن لا يَحِلَّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا بِطِيبِ نَفْسٍ منه، قال رسول الله ﷺ: «لَا يَحِلّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»( ).

 

 

 

 

 

 

وانطلاقًا من هذه القاعدةِ كان لا بدَّ من مراعاةِ التَّرَاضِي في سائرِ عقودِ المعاوضاتِ من البيعِ والشراءِ والنكاحِ ونحوِ ذلك، وسائرِ عقودِ الفسوخِ والتبرعاتِ، والأدلةُ على ذلك كثيرةٌ. 

 

 

 

 

 

 

منها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]. 

 

 

 

 

 

 

فهذا نصٌّ على اعتبارِ التَّرَاضِي واشتراطِه لصحةِ التجارةِ وهي البيعُ والشراءُ. 

 

 

 

 

 

 

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]. 

 

 

 

 

 

 

فَأَكْلُ أموالِ الناسِ عن طريقِ التَّحَايُلِ، واستغلالِ الحكامِ في الضغطِ على الضعفاءِ والاستيلاءِ على أموالهِم سبيلٌ مَذْمُومٌ يَبُوءُ صَاحِبُهُ بالخُسْرَانِ.

 

 

 

 

 

 

وَكُلّهَا طرقٌ تُنَافِي التراضيَ الذي جَعَلَهُ اللهُ تعالى شَرْطًا في صحةِ العقودِ. 

 

 

 

 

 

 

ومنها: ما رواه أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ»( ).

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

وَوَاجِـبٌ عَلَى الجَمِيــعِ الْعَـــدْلُ

 

 

 

 

 

 

فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُسَـنُّ الفَضْلُ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

إِذَا تَـعَـذَّرَ التَّعَرُّفُ عَلَــــى

 

 

 

 

 

 

ذِي الحَـقِّ فَهْوَ كَالعَدِيمِ جُعِلَا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

وَحُرِّمَ الغَرَرُ فِي المُعَاوَضــَاتْ

 

 

 

 

 

 

وَحُرِّمَ المَيْـسِـرُ فِي المُغَالَبَاتْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

وَسَابـِقٌ إِلَى المُبَاحَـــاتِ أَحَـــقْ

 

 

 

 

 

 

وَوَاجِبٌ بِالنَّذْرِ بِالشَّرْعِ الْتَحَقْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يُقَيَّدُ اللَّفْظُ بِمُلْحَقَاتِهْ

 

 

 

 

 

 

كَشَرْطٍ اوْ مُسْتَثْنًى اوْ صِفَاتِـهْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

وَوَاجِـبٌ عَلَى الجَمِيــعِ الْعَـــدْلُ

 

 

 

 

 

 

فِي كُلِّ شَيْءٍ وَيُسَـنُّ الفَضْلُ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

هذا البيتُ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها العلَّامَةُ السّعديُّ رحمه الله بقوله: «العدلُ واجبٌ والفرضُ مَسْنُونٌ».

 

 

 

 

 

 

والْعَدْلُ: خِلافُ الْجَوْرِ، وَهُوَ فِي اللّغَةِ: الْقَصْدُ فِي الأُمُورِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الأَمْرِ المُتَوَسِّطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ.

 

 

 

 

 

 

والعدلُ هو الميزانُ القِسْطُ الذي يحفظُ حَقَّ الأفرادِ والمجتمعاتِ على السواءِ؛ ولذلك حَثَّ اللهُ تعالى عليه في القرآنِ وَدَعَا الحبيبُ ﷺ الناسَ جميعًا لا سيما أولو الأمرِ إلى مراعاةِ العدلِ في شئونِ رَعِيَّتِهِمْ، وَمَنْ جَعَلَهُمُ اللهُ تعالى تحتَ حُكْمِهِمْ ورعايتِهم.

 

 

 

 

 

 

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل: 90].

 

 

 

 

 

 

وقَال تَعَالَى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]. 

 

 

 

 

 

 

وَقَال النَّبِيُّ ﷺ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»( ).

 

 

 

 

 

 

وَقَوْله ﷺ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ» وَفِي رِوَايَةٍ: « مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ المُسْلِمِينَ ثُمَّ لا يَجْهَدُ لهُمْ وَيَنْصَحُ إِلا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الجَنَّةَ»( ). 

 

 

 

 

 

 

وَمِنْ دُعَائِهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

ومن الأمورِ التي ينبغي التنبيهُ إليها وُجُوبُ الْعَدْلِ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 3]. 

 

 

 

 

 

 

وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ»( ). 

 

 

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ تضمنُ الفلاحَ للمرءِ في الدنيا والآخِرَةِ، وهي قاعدةٌ مطردةٌ في شؤونِ الدنيا والآخرةِ، ولا شَكَّ أن كُلَّ عَدْلٍ فهو مِنْ أَمْرِ اللهِ تعالى، وَكُلَّ ظُلْمٍ فهو مما نَهَى اللهُ تعالى عنه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 9].

 

 

 

 

 

 

قال جُوَيْرِيَةُ بْنُ بَشِيرٍ الهُجَيْمِيُّ: سمعتُ الحسنَ قرأ يومًا هذه الآيةَ ثم وَقَفَ فقال: إن الله عز وجل جَمَعَ لكم الخيرَ كُلَّهُ والشرَّ كُلَّهُ في آيةٍ واحدةٍ، فَوَاللهِ ما تَرَكَ العدلُ والإحسانُ من طاعةِ الله شيئًا إلا جَمَعَهُ، ولا تَرَكَ الفحشاءُ والمنكرُ والبغيُ من معصيةِ الله شيئًا إلا جَمَعَهُ( ).

 

 

 

 

 

 

وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ: الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»( ).

 

 

 

 

 

 

والشريعةُ كُلُّهَا عَدْلٌ ابتداءً من توحيدِ الله تعالى وانتهاءً بالمباحاتِ، فَكُلُّ ذلك عَدْلٌ وَضِدُّهُ ظلمٌ قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، وقال تعالى: ﴿فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36] أَيْ: بالمعاصي.

 

 

 

 

 

 

والفضل أَمْرٌ زَائِدٌ على العدلِ، وهو مُسْتَحَبٌّ في حقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ، ويكونُ أشدَّ استحبابًا في حَقِّ الأخيارِ الذين هم بينَ الناسِ قد حَازُوا سيرةَ الأَبْرَارِ.

 

 

 

 

 

 

ومما يَدُلُّ على هذا ما ثَبَتَ عن أبي رَافِعٍ قال: اسْتَلَفَ رسولُ الله ﷺ من رَجُلٍ بَكْرًا، فجاءته إِبِلُ الصَّدَقَةِ، فأمرنِي أن أقضيَ الرجلَ بَكْرًا، فقلتُ: لم أَجِدْ في الإبلِ إلا رُبَاعِيًّا فقال: «أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» ( ).

 

 

 

 

 

 

وقال جابرُ بنُ عبدِ الله رضي الله عنهما: أَتَيْتُ النبيَّ ﷺ وهو في المسجدِ فقال: «صَلِّ رَكْعَتَيْنِ» وكان لي عليه دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي( ).

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

إِذَا تَـعَذَّرَ التَّعَرُّفُ عَلَى

 

 

 

 

 

 

ذِي الحَقِّ فَهُوَ كَالعَدِيمِ جُعِلاَ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

هذا البيتُ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها الشيخُ السعديُّ رحمه الله بقوله: «إذا تعذَّر معرفةُ مَنْ له الحقُّ جُعِلَ كالمعدومِ».

 

 

 

 

 

 

لا شكَّ أنَّ أداءَ الحقوقِ إلى أَهْلِهَا من أصولِ السلوكِ والمعاملاتِ في الشريعةِ الإسلاميةِ، ولا يجوزُ لأَحَدٍ أن يتهاونَ في أداءِ حقوقِ الخَلْقِ كالأجيرِ والعاملِ وغيرِهم لما رَوَى عبدُ اللهِ بنُ عمرَ، قال: قال رسول الله ﷺ: « أَعْطُوا الأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ«( ). 

 

 

 

 

 

 

وقد جَعَلَ اللهُ تعالى أداءَ الحقوقِ شَرْطًا في التوبةِ من الذنوبِ المتعلقةِ بالعبادِ، وَجَعَلَ جزاءَ جَحْدِ الحقوقِ تَلَفًا يلحقُ صاحبَه في الدنيا، وإفلاسًا من الحسناتِ في الآخرةِ، فلا بِدِينِهِ ظَفِرَ، ولا لِدُنْيَاهُ جَمَعَ! 

 

 

 

 

 

 

فَعَنْ أَبِي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ قال: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا؛ أَتْلَفَهُ اللهُ»( ). 

 

 

 

 

 

 

وعنه –أيضًا- رضي الله عنه، أن رسولَ الله ﷺ قال: «أَتَدْرُونَ مَنِ المُفْلِسُ؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»( ).

 

 

 

 

 

 

ونظرًا لأنَّ شريعةَ الإسلامِ شريعةٌ واقعيةٌ في أحكامِها، شاملةٌ في تصوراتِها، لم تُهْمِلْ حكمَ الحقِّ الذي عندَ المسلمِ ولم يُتَعَرَّفْ على صاحبِه، وهذا هو موضوعُ هذا البيتِ الذي نَحْنُ بِصَدَدِهِ، فإن الحقَّ إذا تَعَذَّرَ التعرفُ على صاحبِه فإنه حينئذٍ يصيرُ كالعدمِ، ومعنَى كونِه كالعدمِ أي كأنه لا صاحبَ لَهُ فيتصرفُ فيه المسلمُ كيف شاء شريطةَ أن يضمنَه إذا ظَهَرَ صاحبُه يومًا من الدهرِ. 

 

 

 

 

 

 

وهذا واضحٌ جِدًّا في الأحاديثِ المتعلقةِ بحكمِ اللقطةِ؛ فعن زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ أنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ فسأله عن اللقطةِ فقال: «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا» قال: فَضَالَّة الغنم؟ قال: «لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» قال: فضَالَّة الإبل؟ قال: «مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ المَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا»( ).

 

 

 

 

 

 

وَسَعْيُ المسلمِ في رَدِّ هذا الحقِّ لصاحبِه محلُّ إجماعٍ، واستمتاعُه به إن لم يجد صاحبَه محلُّ إجماعٍ كذلك نقلهما القاضي عياضٌ حيث قال: وَقَدْ أَجْمَعَ العلماءُ على الاكتفاءِ بتعريفِ سَنَةٍ ولم يشترط أحدٌ تعريفَ ثلاثةِ أعوامٍ إلا ما رُوِيَ عن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه، ولعله لم يَثْبُتْ عنه. 

 

 

 

 

 

 

وقال النوويُّ: «وقد نَقَلَ القاضِي وغيرُه إجماعَ المسلمينَ على أنه إذا جَاءَ صَاحِبُهَا بعدَ التمليكِ ضَمِنَهَا المتملكُ، إلا دَاوُدَ فأسقطَ الضمانَ، واللهُ أعلمُ» ( ). 

 

 

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ منبثقةٌ من أصلٍ كُلِّيٍّ في شريعةِ الإسلامِ يرجعُ إلى الكلياتِ الخمسِ التي هي: حِفْظُ: (الدِّينِ، والعقلِ، والمالِ، والعِرْضِ، والنَّفْسِ) فَحِفْظُ الحقوقِ الماليةِ وغيرِها أحدُ الكلياتِ الخمسِ، وهذه القاعدةُ أحدُ أَطْرَافِهَا. 

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

وَحُرِّمَ الغَرَرُ فِي المُعَاوَضــَاتْ

 

 

 

 

 

 

وَحُرِّمَ المَيْـسِـرُ فِي المُغَالَبَاتْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

هذا البيتُ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها الشيخُ السعديُّ رحمه الله بقوله: «الغررُ والميسرُ محرمٌ في المعاوضاتِ والمغالباتِ».

 

 

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ من الضوابطِ العامةِ لأمورِ البيعِ والشراءِ والمسابقاتِ، فلقد نَصَّ الشرعُ على تحريمِ الغررِ في سائرِ المعاملاتِ الماليةِ، ولم يَسْتَثْنِ منه إلا اليسيرَ الذي تَدْعُو إليه الحاجةُ وَتَسْتَدْعِيهِ المصلحةُ، وَنَصَّ كذلك على تحريمِ المَيْسِرِ في سائرِ المسابقاتِ، ولم يَسْتَثْنِ من ذلكَ إلا ما كان مُعِينًا على طاعةِ اللهِ كما سيأتِي بيانُه. 

 

 

 

 

 

 

فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

قال الإمامُ الخطابيُّ: أصْلُ الغررِ هو ما طُوِيَ عنكَ عِلْمُهُ، وَخَفِيَ عليكَ باطنُه وَسِرُّهُ، وهو مأخوذٌ من قولكِ: طَوَيْتُ الثوبَ على غِرِّهِ أي: على كَسْرِهِ الأولِ.

 

 

 

 

 

 

وكلُّ بيعٍ كان المقصودُ منه مجهولًا غير معلومٍ ومعجوزًا عنه غير مقدورٍ عليه فهو غَرَرٌ، وإنما نَهَى ﷺ عن هذه البيوعِ تَحْصِينًا للأموالِ أن تضيعَ وَقَطْعًا للخصومةِ والنِّزاعِ أن يَقَعَا بينَ الناسِ فيها. 

 

 

 

 

 

 

وأبوابُ الغررِ كثيرةٌ، وَجِمَاعُهَا ما دَخَلَ في المقصودِ منه الجهلُ( ). 

 

 

 

 

 

 

وقال النوويُّ: «وكذلك أَجْمَعَ المسلمونَ على جوازِ أشياءٍ فيها غررٌ حَقِيرٌ، منها أنهم أَجْمَعُوا على جوازِ إجارةِ الدَّارِ والدَّابةِ والثوبِ ونحوِ ذلك شَهْرًا، مع أن الشهرَ قد يكونُ ثلاثينَ يومًا وقد يكونُ تسعةً وعشرينَ. 

 

 

 

 

 

 

وَأَجْمَعُوا على جوازِ دخولِ الحَمَّامِ بالأجرةِ مع اختلافِ الناسِ في استعمالهِم الماءَ وفي قَدْرِ مُكْثِهِمْ، والسببُ أَنَّ الحاجةَ دَعَتْ إلى ارتكابِ الغررِ، ولا يمكنُ الاحترازُ منه إلا بِمَشَقَّةٍ، وكان الغررُ حَقِيرًا» ( ). 

 

 

 

 

 

 

قال شيخُ الإسلامِ: «وأما الغررُ، فإنه ثلاثةُ أنواعٍ: إما المعدومُ؛ كحَبَلِ الحبلةِ، وبيعِ السنينَ، وإما المعجوزُ عن تسليمِه؛ كبيعِ العبدِ الآبِقِ، وإما المجهولُ المطلقُ، أو المُعَيَّنُ المجهولُ جِنْسُهُ أو قَدْرُهُ، كقولِه: بِعْتُكَ عَبْدًا، أو بِعْتُكَ ما في بَيْتِي، أو بِعْتُكَ عَبِيدِي. فأما المعينُ المعلومُ جِنْسُهُ وَقَدْرُهُ، المجهولُ نوعُه وصفتُه، كقولِه: بِعْتُكَ الثوبَ الذي في كُمِّي، أو العبدَ الذي أَمْلِكُهُ ونحو ذلك، ففيهِ خلافٌ مشهورٌ»( ). 

 

 

 

 

 

 

أما الميسرُ فلقد نَصَّ القرآنُ على تحريمِه قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: 91]. 

 

 

 

 

 

 

والميسرُ: قمارُ العربِ بالأَزْلَامِ، وكلُّ شيء فيه قمارٌ من نَرْدٍ وَشِطْرَنْجٍ فهو الميسرُ، وكل ما قُومِرَ به فهو مَيْسِرٌ عندَ مالكٍ وغيرِه من العلماءِ، والميسرُ مأخوذٌ من اليَسَرِ وهو وجوبُ الشيء لصاحبِه، والياسرُ: اللاعبُ بِالْقِدَاحِ. اهـ( ). 

 

 

 

 

 

 

قال شيخُ الإسلامِ: «واتفقَ المسلمونَ على تحريمِ المَيْسِرِ، وَاتَّفَقُوا على أن المغالباتِ المشتملةَ على القمارِ من الميسرِ، سواءٌ كان بالشِّطْرَنْجِ أو بِالنَّرْدِ، أو بالجَوْزِ، أو بالكعابِ، أو البيضِ، قال غيرُ واحدٍ من التابعينَ كعطاءٍ، وطاووسٍ وَمُجَاهِدٍ، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ: كُلُّ شيء من القمارِ فهو من الميسرِ حتى لَعِبُ الصبيانِ بِالْجَوْزِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

قال الشيخُ السعديُّ رحمه الله: بابُ المسابقةِ والمغالبةِ وهي ثلاثةُ أنواعٍ: 

 

 

 

 

 

 

(1) نوعٌ يجوزُ بِعِوَضٍ وغيرِه، وهي: مسابقةُ الخيلِ والإبلِ والسهامِ. 

 

 

 

 

 

 

(2) ونوعٌ يجوزُ بلا عِوَضٍ ولا يجوزُ بِعِوَضٍ، وهي جميعُ المغالباتِ بغيرِ الثلاثةِ المذكورةِ. 

 

 

 

 

 

 

(3) وبغيرِ النَّرْدِ والشطرنجِ ونحوِهما: فَتَحْرُمُ مُطْلَقًا وهو النوعُ الثالثُ. 

 

 

 

 

 

 

لحديثِ: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ» رواه أحمدُ والثلاثةُ. 

 

 

 

 

 

 

وأمَّا ما سِوَاهَا: فإنها دَاخِلَةٌ في القمارِ وَالمَيْسِرِ( ). 

 

 

 

 

 

 

وبهذا يتضحُ لكَ أن المغالباتِ إن كانت تُعِينُ على ما أَمَرَ اللهُ به جَازَتْ بِجُعْلٍ وبغيرِ جُعْلٍ، وإن كانت تُعِينُ على ما نَهَى اللهُ عنه فَمَنْهِيٌّ عنها بِجُعْلٍ وَبِغَيْرِ جُعْلٍ، وما كان مِنْهَا مُشْتَمِلًا على منفعةٍ بلا مَضَرَّةٍ راجحةٍ كالمسابقةِ والمصارعةِ جَازَ بلا جُعْلٍ( ). 

 

 

 

 

 

 

فائدةٌ: 

 

 

 

 

 

 

مِنْ حُسْنِ النظمِ في هذا البيتِ أَنْ جَمَعَ بينَ تحريمِ الغررِ وَالمَيْسِرِ؛ لأنَّ بينَهما علاقة قوية قد أَفْصَحَ عنها شيخُ الإسلامِ حيث قال: وكذلك لفظُ الميسرِ هو عندَ أكثرِ العلماءِ يتناولُ اللعبَ بالنردِ والشطرنجِ، ويتناولُ بيوعَ الغَرَرِ التي نَهَى عنها النبيُّ ﷺ؛ فإنَّ فيها معنَى القمارِ الذي هو مَيْسِرٌ؛ إِذِ القِمَارُ معناه: أن يؤخذَ مالُ الإنسانِ وهو على مُخَاطَرَةٍ هل يحصُل له عِوَضُهُ، أو لا يَحْصُلُ؟ كالذي يشتري العبدَ الآبِقَ، والبعيرَ الشَّاردَ، وَحَبَلَ الحبَلةِ، ونحو ذلك مما قد يَحْصُلُ له وقد لا يَحْصُلُ له، وعلى هذا فلفظُ المَيْسِرِ في كتابِ الله تعالى يتناولُ هذا كُلَّهُ، وما ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ ﷺ أنه نَهَى عن بيعِ الغررِ يتناولُ كُلَّ ما فيه مُخَاطَرَةٌ، كبيعِ الثمارِ قَبْلَ بُدُوِّ صلاحِها وبيعِ الأَجِنَّةِ في البطونِ، وغيرِ ذلك. اهـ( ).

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

وَسَابـِقٌ إِلَى المُبَاحَـــاتِ أَحَـــقْ

 

 

 

 

 

 

وَوَاجِبٌ بِالنَّذْرِ بِالشَّرْعِ الْتَحَقْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

هذا البيتُ في شَطْرِهِ الأولِ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها العلَّامةُ السّعديُّ رحمه الله بقوله: «مَنْ سَبَقَ إلى المباحاتِ فَهُوَ أحقُّ بها مِنْ غَيْرِهِ».

 

 

 

 

 

 

وليس المقصودُ بلفظِ المباحِ هنا الإباحةَ المُتَمِّمَةَ لقسمةِ الأحكامِ التكليفيةِ الشرعيةِ؛ التي هي الوجوبُ والندبُ والإباحةُ والكراهةُ والتحريمُ، وإنما المقصودُ بها المشاعُ الذي لم يَقَعْ تحتَ مِلْكِ أحدٍ من الناسِ بطريقةٍ شرعيةٍ صحيحةٍ من بيعٍ أو شراءٍ أو إِرْثٍ أو هِبَةٍ أو نحوِ ذلك.

 

 

 

 

 

 

فيدخلُ في هذا الأرضُ المواتُ، ويدخلُ فيه ما تُخْرِجُهُ الأرضُ غيرُ المملوكةِ كأرضِ الغاباتِ ونحوِها من زروعٍ وحشائشَ وَكَلَأٍ وأشجارٍ وثمارٍ، ويدخلُ في ذلك أيضًا أسماكُ البحارِ والأنهارِ ومياههما، وطيورُ السماءِ وحيواناتُ البَرِّ التي لا يَمْلِكُهَا أحدٌ من الناسِ...إلخ.

 

 

 

 

 

 

ولقد امْتَنَّ اللهُ تعالى على خَلْقِهِ بِأَنْ خَلَقَ لهم ما في الأرضِ جميعًا، وأباحَ لهم سبحانَه أن يَنْتَفِعُوا بها إلا في حدودِ ما حَرَّمَ اللهُ، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29].

 

 

 

 

 

 

قال الشيخُ السّعديُّ رحمه الله: «وفي هذه الآيةِ الكريمةِ دليلٌ على أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحةُ والطهارةُ؛ لأنها سِيقَتْ في معرضِ الامتنانِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

ولأن الله تعالى خَلَقَ المباحَ للخَلْقِ جميعًا وَأَذِنَ لهم جميعًا في الانتفاعِ به، كان مَنْ سَبَقَ إليه أحقَّ الناسِ به، وهذا ما تَضَمَّنَهُ الشطرُ الأولُ من البيتِ، وهذا يدخلُ في أبوابٍ متفرقةٍ منها: إحياءُ المواتِ واستثمارُ الأرضِ، فعن عائشةَ رضي الله عنها: عن النبيِّ ﷺ قال: «مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا«( ). 

 

 

 

 

 

 

وَمِنْ أَهَمِّ الأحكامِ التي تندرجُ تحتَ هذه القاعدةِ، إحياءُ المواتِ، والمواتُ: الأرضُ الَّتِي لا مالِكَ لها، ولا ينتفِعُ بِها أحدٌ، وقيل: هي الأَرْضُ الداثرةُ التي لا يُعْلَمُ أنها مُلِكَتْ. 

 

 

 

 

 

 

وإحياءُ المواتِ معناه في الاصطلاحِ( ):

 

 

 

 

 

 

عندَ الحنفيةِ: التسببُ للحياةِ الناميةِ ببناءٍ أو غرسٍ أو حراثةٍ أو سَقْيٍ. 

 

 

 

 

 

 

وَعَرَّفَهُ ابنُ عرفةَ من المالكيةِ بأنه: لقبٌ لتعميرِ داثرِ الأرضِ بما يقتضي عدمَ انصرافِ المُعَمِّرِ عن انتفاعِه بها.

 

 

 

 

 

 

وَعَرَّفَهُ الشافعيةُ بأنه: عمارةُ الأرضِ الخَرِبَةِ التي لا مالكَ لها، ولا ينتفعُ بها أَحَدٌ.

 

 

 

 

 

 

وَعَرَّفَهُ الحنابلةُ: بأنه عمارةُ ما لم يَجْرِ عليه مِلْكٌ لأَحَدٍ، ولم يوجد فيه أثرُ عِمَارَةٍ.

 

 

 

 

 

 

والذي نستنتجه أن الإحياءَ يكونُ بالعمارةِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، سواء أكان ذلك بالبناءِ أو الزراعةِ أو غيرِ ذلك من وسائلِ الإحياءِ، والذي يترتبُ على الإحياءِ هو المِلْكُ لِلأَرْضِ وما عليها عندَ جمهورِ الفقهاءِ عدا الحنفيةِ خلافًا لبعضِ الحنفيةِ الذين يرونَ أن المُحْيِيَ له حَقُّ الانتفاعِ دونَ التملكِ، ولا شكَّ أنَّ ظاهرَ الدليلِ مع الجمهورِ. 

 

 

 

 

 

 

وهناك أحكامٌ كثيرةٌ تتعلقُ بأحكامِ المواتِ تُطْلَبُ من كُتُبِ الفروعِ. 

 

 

 

 

 

 

وأما الشطرُ الثانِي من البيتِ فإنه إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها العَلَّامَةُ السعديُّ رحمه الله بقوله: «الواجبُ بالنذرِ يلحقُ بالواجبِ بالشرعِ». 

 

 

 

 

 

 

وهي تتناولُ فقهَ وجوبِ الوفاءِ بالنذرِ، وهذا يتطلبُ الحديثَ عن أمرين:

 

 

 

 

 

 

الأولُ: النذرُ لا يُلْحِقُ شيئًا بالشرعِ، بمعنَى أن مَنْ نَذَرَ شيئًا غيرَ مشروعٍ لا يُغني عنه نذرُه شيئًا، وإنما يَلْزَمُهُ ألا يفعلَ وجوبًا، فلا يجبُ بالنذرِ فِعْلُ ما لم يَشْرَعُهُ اللهُ تعالى، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: بَيْنَا النبيُّ ﷺ يخطبُ إذا هو برجلٍ قائمٍ فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيلَ نَذَرَ أن يقومَ ولا يقعدَ ولا يستظلَّ ولا يتكلمَ ويصومَ، فقال النبيُّ ﷺ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ»( ). 

 

 

 

 

 

 

وعن عائشةَ رضي الله تعالى عنها عن النبي ﷺ قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يْعصِهِ»( ). 

 

 

 

 

 

 

الثاني: مَنْ أَوْجَبَ على نفسِه نذرًا وَجَبَ عليه أن يؤديَه من جنسِ أعمالِ الشرعِ، يعني: نُلْحِقُ نَذْرَهُ بالشرعِ لننظرَ على أيِّ صفةٍ أَذِنَ الشرعُ له في ذلك الذي نَذَرَهُ. 

 

 

 

 

 

 

فلو نَذَرَ أن يتصدقَ لَزِمَهُ أن يتصدقَ على الوجهِ الشَّرعيِّ، ونمنعُه مثلًا من التصدقِ لصناديقِ النذورِ عندَ القبورِ!!

 

 

 

 

 

 

ولو نَذَرَ أن يصليَ فلا يحلُّ له أن يصليَ قاعدًا مع القدرةِ؛ لأنَّ الصلاةَ الواجبةَ لا يجوزُ فيها الجلوسُ مع القدرةِ بخلافِ النافلةِ وهكذا.

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

يُقَيَّـــــدُ اللَّفْـــــظُ بِمُلْحَقَـــاتِـــهِ

 

 

 

 

 

 

كَشَرْطٍ اوْ مُسْتَثْنًى اوْ صِفَاتِـهِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

هذا البيتُ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها العَلَّامَةُ السعديُّ رحمه الله بقوله: «يجبُ تقييدُ اللفظِ بملحقاتِه من وَصْفٍ أو شرطٍ أو استثناءٍ، أو غيرِها من القيودِ».

 

 

 

 

 

 

من المعلومِ عندَ الأصوليينَ أن اللفظَ ينقسمُ إلى:

 

 

 

 

 

 

1- عامٌّ، وتعريفُه: «اللفظُ المستغرقُ لجميعِ ما يصلحُ له بحسبِ وَضْعٍ وَاحِدٍ»( ).

 

 

 

 

 

 

2- خاصٌّ، وتعريفُه: «اللفظُ الموضوعُ لواحدٍ، ولو بالنوعِ أو لمتعددٍ مَحْصُورٍ»( ).

 

 

 

 

 

 

وأما التخصيصُ فهو: «قَصْرُ العَامِّ على بعضِ مسمياته» ( ).

 

 

 

 

 

 

والمخصصاتُ تنقسمُ إلى متصلةٍ ومنفصلةٍ، والذي يَعْنِينَا هنا المخصصاتُ المتصلةُ وهي لها أنواعٌ كثيرةٌ، عدَّها بعضُ العلماء اثْنَيْ عَشَرَ نوعًا( )، والمشهورُ منها أربعةٌ: الاستثناءُ، والشرطُ، والصفةُ، والغايةُ.

 

 

 

 

 

 

وبيانُها كالآتي:

 

 

 

 

 

 

- النوعُ الأولُ: الاستثناءُ:

 

 

 

 

 

 

أولًا: تعريفُ الاستثناءِ: الاستثناءُ في اللغةِ: بمعنَى العَطْفِ والعَوْدِ، كقولهم: ثَنَيْتُ الحَبْلَ: إذا عَطَفْتَ بعْضَهُ على بعض. وقيل: بمعنَى الصَّرْفِ والصدِّ من قولهم: ثنيتُ فلانًا عن رَأْيِهِ( ).

 

 

 

 

 

 

وَعَرَّفَهُ الأصوليونَ بأنه: الإخراجُ بـ(إلَّا) أو بإحدى أخواتِها من مُتَكَلِّمٍ واحدٍ( ).

 

 

 

 

 

 

وينقسمُ الاستثناءُ إلى قسمينِ:

 

 

 

 

 

 

متصل: وهو ما كان اللفظُ الأولُ منه يتناولُ الثانيَ( )، أو: هو ما كان المستثنَى من جنسِ المستثنَى منه.

 

 

 

 

 

 

مثالُ ذلك: سلمتُ على المُصَلِّينَ إلا محمدًا، وجاء القومُ إلا زيدًا.

 

 

 

 

 

 

ومنفصل أو منقطع: وهو ما لا يتناولُ اللفظَ الأولُ فيه الثانيَ، أو: ما كان المستثنَى من غيرِ جنسِ المستثنَى منه( ).

 

 

 

 

 

 

مثالُه: رأيتُ القومَ إلَّا كَلْبَهُمْ.

 

 

 

 

 

 

والعلماءُ مُتَّفِقُونَ على أن الاستثناءَ حقيقةٌ في النوعِ الأولِ (المتصلِ)، ولكنهم مختلفونَ في النوعِ الثاني (المنفصلِ): هل الاستثناءُ حقيقةٌ فيه أو مجازٌ؟ 

 

 

 

 

 

 

ومن الفروعِ المترتبةِ على التخصيصِ بالاستثناءِ( ): 

 

 

 

 

 

 

1- إذا قال: له عليَّ عشرةٌ إلا واحدًا. لَزِمَهُ تسعةٌ. جَزَمَ بِهِ الرافعيُّ.

 

 

 

 

 

 

2- إذا قال: أَرْبَعَتُكُنَّ إلا فلانةَ طوالقُ. صحَّ هذا ولم تَطْلُقِ المستثناةُ.

 

 

 

 

 

 

وينبغي التنبيهُ إلى أنَّ الاستثناءَ المستغرقَ لجميعِ الأفرادِ باطلٌ باتفاقِ الأصوليينَ؛ لأنه يُفْضِي إلى اللَّغْوِ، مثل:

 

 

 

 

 

 

إذا قال لزوجتِه مثلا: أنتِ طالقٌ طلقةً إلا طلقةً بَطَلَ الاستثناءُ ووقع الطلاقُ. ولو قال: ثلاثًا إلا ثلاثًا وقعَ الثلاثُ وَبَطَلَ الاستثناءُ( ).

 

 

 

 

 

 

النوعُ الثاني من المخصصاتِ المتصلةِ: الشرطُ: وهو في اللغةِ: العَلَامَةُ، ومنه أشراطُ الساعةِ؛ أي: علاماتُها( ).

 

 

 

 

 

 

وفي الاصطلاحِ: عُرِّفَ الشرطُ بأنه: ما يَلْزَمُ من عَدَمِهِ الْعَدَمُ، ولا يَلْزَمُ من وجودِه وجودٌ ولا عَدَمٌ لِذَاتِهِ( ).

 

 

 

 

 

 

وعَرَّفَه الغزالي بأنه: ما لا يوجد المشروطُ مع عَدَمِهِ، لكن لا يلزمُه أن يوجد وُجُودَهُ( ).

 

 

 

 

 

 

مثل قولِه تعالى: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ [النساء: 12]. 

 

 

 

 

 

 

فقد بَيَّنَتِ الآيةُ الكريمةُ أن استحقاقَ الأزواجِ للنصفِ من ميراثِ الزوجةِ مشروطٌ بألا يكونَ للزوجةِ وَلَدٌ، وهو مُخْرَجٌ وَمُخَصَّصٌ من العَامِّ، وهو استحقاقُ الأزواجِ النصفَ في جميعِ الحالاتِ، فالشرطُ خَصَّصَ عمومَ الآيةِ فيما جاءت به.

 

 

 

 

 

 

ومما يترتبُ عليه من الفروعِ الفقهيةِ:

 

 

 

 

 

 

1- إذا قال: أنتِ طالقٌ ثم طالقٌ إن دخلتِ الدارَ رجعَ الشرطُ إلى الطَّلْقَتَيْنِ( ).

 

 

 

 

 

 

النوعُ الثالثُ: الصفةُ: 

 

 

 

 

 

 

من المخصصاتِ المتصلةِ: الصفةُ، وهي: التَّابِعُ المشتقُّ الذي يَقَع نَعْتًا للموصوفِ( ).

 

 

 

 

 

 

والصفةُ في اللغةِ: هي الاسمُ الدَّالُّ على بعضِ أحوالِ الذاتِ، وذلك نحو: طويل وقصير وعاقل وأحمق، وغيرها. وهي الأَمَارَةُ اللازمةُ بذاتِ الموصوفِ الذي يُعْرَفُ بها( ).

 

 

 

 

 

 

وَيُقْصَدُ بالصفةِ عندَ الأصوليينَ:

 

 

 

 

 

 

مُطْلَقُ القيدِ الذي يفيدُ تحديدَ لفظٍ آخرَ وتقليلَ شُيُوعِهِ، لولاه لكان اللفظُ شاملًا للمعنَى المقصودِ وغيرِه، ولا يُرَادُ بها خصوصُ النعتِ المعروفِ عندَ النحويينَ، وإنما هي لفظٌ مُقَيِّدٌ لآخَرَ غيرُ منفصلٍ عنه، ليس بشرطٍ ولا استثناءٍ ولا غَايَةٍ، فيدخلُ في هذا كُلُّ ما يصلحُ أن يكونَ قَيْدًا؛ سواء كان نعتًا، أو حالًا، أو ظرفًا، أو مُضَافًا، أو مضافًا إليه، أو جارًّا ومجرورًا، أو تمييزًا، أو عطفَ بَيَانٍ، أو بدلَ بعضٍ مِنْ كُلٍّ، وما شَابَهَ ذلك مما هو في معنَى الصفةِ( )، وَكُلُّ هذه القيودِ داخلةٌ تحتَ الصفةِ، فإن المعدودَ والمحدودَ – كما قال صاحبُ البرهانِ – موصوفانِ بِعَدِّهِمَا وَحَدِّهِمَا، والمخصوصُ بالكونِ في مكانٍ وزمانٍ موصوفٌ بالاستقرارِ فيهما... فالصفةُ تجمعُ كُلَّ الجهاتِ التي ذكرتُ( )، والصفةُ لفظٌ مُقَيِّدٌ لآخَرَ( )، وليس المرادُ بها النعتَ بخصوصِه، بل تشتملُ على كُلِّ مَا أَشْعَرَ بمعنًى يتصفُ به أفرادُ العَامِّ.

 

 

 

 

 

 

مثالُ ذلك من السُّنَّةِ حديثُ: «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ»( ) فلفظُ (الغَنَمِ) عَامٌّ يتناولُ السائمةَ وغيرَها؛ كالمعلوفةِ مثلًا، فلما وَصَفَهُ بالسائمةِ اخْتَصَّ بما يكونُ بصفةِ السَّوْمِ، فتعليقُ الحكمِ بصفةٍ من صفاتِ الذاتِ يدلُّ على ثبوتِه للذاتِ عندَ وجودِ هذه الصفةِ، والشرعُ هنا قد عَلَّقَ وجوبَ الزكاةِ في الغنمِ بصفةٍ من صفاتِها، وهي السومُ، والسومُ مختصٌّ ببعضِها لا بِكُلِّهَا، فتجبُ الزكاةُ في السائمةِ اتِّفَاقًا( ).

 

 

 

 

 

 

شروطُ الصفةِ( ):

 

 

 

 

 

 

- يُشْتَرَطُ في الصفةِ الاتصالُ بالموصوفِ، فلا يُفْصَلُ بينَهما في الزمنِ.

 

 

 

 

 

 

- إذا وَقَعَتِ الصفةُ بعدَ مُتَّحِدٍ اخْتَصَّ بها، مثل: سَاعِدِ الأطفالَ اليَتَامَى، وإن وَقَعَتْ بعدَ متعددٍ فقيلَ: ترجعُ إلى الجميعِ، وقيل: ترجعُ إلى الأخيرِ فقط، مثالُ ذلك: أَكْرِمِ العلماءَ، وَجَالِسِ الفقهاءَ الزهادَ، وَأَكْرِمِ العربَ والعَجَمَ المؤمنينَ.

 

 

 

 

 

 

النوعُ الرابعُ: الغايةُ:

 

 

 

 

 

 

ومن المُخَصِّصَاتِ المتصلةِ: الغايةُ. والغايةُ اصطلاحًا: نهايةُ الشيءِ المقتضيةُ لثبوتِ الحكمِ قَبْلَهَا وَانْتِفَائِه بَعْدَهَا( ).

 

 

 

 

 

 

ولها لفظانِ يدلانِ عليها وَهُمَا: «حَتَّى، وإلى» مثل قوله تعالى:

 

 

 

 

 

 

﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: 222].

 

 

 

 

 

 

ومثل قوله تعالى:

 

 

 

 

 

 

﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: 6].

 

 

 

 

 

 

وعلماءُ الأصولِ يُقَسِّمُونَ المخصِّصَ بكسرِ الصادِ – أي الدليلِ الذي حَصَلَ به التخصيصُ – إلى متصلٍ أي لا يَسْتَقِلُّ بنفسِه، وإلى منفصلٍ أي يستقلُّ بنفسِه، والبيتُ الذي معنا قد عَنَى بتوضيحِ المخصصِ المتصلِ: الشرطَ، والاستثناءَ، والصفةَ. 

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

وَالشُّـرَكَـا فِي المِلْكِ يُشْــرِكُـونَا

 

 

 

 

 

 

زَيْـدًا وَنَقْصًـا وَيُقَسِّطُونَا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

مَصَارِفَ التَّعْمِيرِ حَسْبَمَا حَـوَوْا

 

 

 

 

 

 

إِنْ عَلِمُـوا ذَاكَ وَإِلَّا فَاسْتَـوَوْا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

تَبَعُّــضُ الْحُكْــمِ عَلَى حِسَابِ

 

 

 

 

 

 

تَفَـاوُتٍ يَحْصُلُ فِي الأَسْبَابِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

وَمَنْ نَوَى الرُّجُـــوعَ فِيمَا أَدَّى

 

 

 

 

 

 

عَنْ غَيرِهِ لَهُ يَرُدُّ رَدَّا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

إِنْ خُيِّرَ المَرْءُ وَكَانَ المَصْلَحَهْ

 

 

 

 

 

 

لَهُ فَمَـا أَحَبَّهُ فَلْيُمْنَحَهْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

وَإِنْ تَكُنْ لِغَيرِهِ فَيَلْزَمُ

 

 

 

 

 

 

الاجْتِهَادُ فِي الَّذِي يُسَلِّمُ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

وَالشُّـرَكَـا فِي المِلْكِ يُشْــرِكُـونَا

 

 

 

 

 

 

زَيْـدًا وَنَقْصًـا وَيُقَسِّطُونَا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

مَصَارِفَ التَّعْمِيرِ حَسْبَمَا حَـوَوْا

 

 

 

 

 

 

إِنْ عَلِمُـوا ذَاكَ وَإِلَّا فَاسْتَـوَوْا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

هذانِ البيتانِ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها الشيخُ السعديُّ رحمه الله بقوله: «الشركاءُ في الأملاكِ، يشتركونَ في زيادتِها ونقصانِها، ويشتركونَ في التعميرِ اللازمِ، وَتُقَسَّطُ عليهم المصاريفُ بحسبِ مِلْكِهِمْ، ومع الجهلِ بمقدارِ ما لِكُلٍّ منهم يَتَسَاوونَ».

 

 

 

 

 

 

وفي هذينِ البيتينِ بيانٌ لحدودِ المعاملةِ الشرعيةِ بينَ المشتركينِ في الأملاكِ؛ فحاجةُ الناسِ إلى الشَّرِكةِ لا تَنْقَضِي، فَلَزِمَ أن تُحدَّ الحدودُ وَتُبَيَّنَ معالمُ الشَّرِكةِ كيف نَظَّمَهُمَا الإسلامُ. 

 

 

 

 

 

 

وقد قَسَّمَ الفقهاءُ الشَّركةَ إلى قسمينِ رئيسينِ:

 

 

 

 

 

 

1- شَرِكَةُ المِلْكِ: فهي أن يختصَّ اثنانِ فصاعدًا بشيءٍ واحدٍ، أو ما هو في حُكْمِهِ.

 

 

 

 

 

 

والذي في حُكْمِ الشيءِ الواحدِ هو المتعددُ المختلطُ بحيثُ يتعذرُ أو يتعسرُ تفريقُه لتتميزِ أنصبائِه.

 

 

 

 

 

 

وَعَرَّفَهَا بعضُ الفقهاءِ بقوله: ثبوتُ الحقِّ في شيء لاثنينِ فأكثرَ على جهةِ الشيوعِ.

 

 

 

 

 

 

2- شركةُ العَقْدِ وهي: عقدٌ بينَ المتشاركين في الأصلِ والرِّبحِ، ولها أنواعٌ ثلاثةٌ: شركةُ أموالٍ، وشركةُ أعمالٍ وتُسمَّى أبدانًا، وشركةُ وُجُوهٍ.

 

 

 

 

 

 

والمقصودُ في البيتينِ الشركةُ بالمعنَى الأولِ، وهي شركةُ المِلْكِ.

 

 

 

 

 

 

وتتعددُ مظاهرُ وصورُ شركةِ المِلْكِ، لكنها تنحصرُ في نوعينِ أَسَاسِيَّيْنِ: العينُ وَالدَّيْنُ.

 

 

 

 

 

 

فيشملُ ذلك الدَّارَ الواحدةَ، أو الأرضَ الواحدةَ، إذا اشتراها أو وَرِثَهَا اثنانِ أو أكثر أو انتقلت إليهم بِأَيِّ سببٍ آخَرَ من أسبابِ المِلْكِ، كالهبةِ والوصيةِ وَالصَّدَقَةِ. 

 

 

 

 

 

 

ويدخلُ في ذلك الإردبانِ من القمحِ أو أحدُهما من القمحِ والآخَرُ من الشعيرِ، أو الكِيسَانِ من الدنانيرِ ذاتِ السكةِ الواحدةِ، يُخْلَطَانِ مَعًا طواعيةً أو اضطرارًا - كَإِنِ انْفَتَقَ الكيسانِ المتجاورانِ. 

 

 

 

 

 

 

وتشملُ شركةُ المِلْكِ الديونَ أيضًا؛ بمعنَى أن يكونَ الدَّينُ مستحقًّا لاثنينِ فأكثرَ: كما إذا اشترى إنسانٌ سلعةً من شركاءَ وجعلوا ثمنَها آجِلًا، فإن الشركاءَ يمتلكونَ في هذا الدَّيْنَ بحسبِ أنصبتِهم في الشركةِ.

 

 

 

 

 

 

وقد وَرَدَ في هذينِ البيتينِ المصطلحاتُ الآتيةُ: الزيادةُ، والنقصانُ، ومصاريفُ التعميرِ.

 

 

 

 

 

 

أما الزيادةُ؛ فإما أن تكونَ متصلةً بالأصلِ، بمعنَى أنه يتعذرُ فَصْلُهَا عن الأصلِ، مثل: الزروعِ في الأرضِ الزراعيةِ، والبناءِ في غيرِها.

 

 

 

 

 

 

وإما أن تكونَ الزيادةُ منفصلةً عن الأصلِ؛ مثلَ: وَلَد الماشيةِ، وَثَمَر الزَّرْعِ.

 

 

 

 

 

 

وأما النقصانُ فمعناه واضحٌ، وهو أن يَلْحَقَ بالشيءِ المشتركِ نقصٌ وَخُسْرَانٌ، كما إذا انْهَدَمَ بعضُ البناءِ المشتركِ، أو فَسَدَ بعضُ الزروعِ، أو هَزُلَتِ الماشيةُ، أو نَفَقَ بعضُها...وهكذا.

 

 

 

 

 

 

ومن المُتَّفَقِ عليه بينَ الفقهاءِ أن الخلطاءَ المشتركينَ في ملكيةِ شيءٍ، فإنهم يشتركونَ بحسبِ الأنصبةِ؛ أي بحسب حِصَصِهِمْ في المِلْكِ في الزيادةِ والنقصانِ، فإذا كانوا مُتَسَاوِينَ قُسِّمَتْ بينَهم الزيادةُ أو النقصانُ بالتساوي.

 

 

 

 

 

 

أما عن نفقاتِ التعميرِ فإذا احتاجَ المالُ المشتركُ إلى النفقةِ - سواءً للتعميرِ، أم لغيرِه - كبناءِ مَا تَخَرَّبَ، وإصلاح مَا وَهَى، وإطعام الحيوانات...إلخ فلا خلافَ في وجوبِ تقسيمِ نفقاتِ التعميرِ على الشركاءِ بحسبِ الأنصبةِ، هذا إذا اتَّفَقُوا على الإنفاقِ، أما إذا اخْتَلَفُوا فَوَافَقَ بعضُهم على الإنفاقِ، وَرَفَضَ الآخَرُونَ ففي المسألةِ تفصيلٌ؛ وهذا التفصيلُ بحسبِ قابليةِ المالِ للقسمةِ أو عدمِ قابليتِه: 

 

 

 

 

 

 

1- ففي القابلِ للقسمةِ: كالدارِ الفسيحةِ، والحوانيتِ المُعَدَّةِ للاستغلالِ، والحيواناتِ المتعددةِ، لا إجبارَ على الممتنعِ إذا كان مالكًا، ولكن يُقَسَّمُ المُشْتَرَكُ؛ ليقومَ مَنْ أَرَادَ النفقةَ على الإصلاحِ بإصلاحِ مالِه والإنفاقِ عليه، هذا إذا كان الممتنعُ مالكًا، أما إذا كان الممتنعُ وكيلًا، كَالْوَصِيِّ أو ناظرِ الوقفِ (كما في دارٍ مشتركةٍ بينَ وَقْفَيْنِ مَثَلاً) فإنَّ القاضيَ يُجْبِرُهُ على نفقاتِ التعميرِ؛ لأنَّ تَصَرُّفَهُ منوطٌ بالمصلحةِ. 

 

 

 

 

 

 

2- وإن لم يكن المالُ المشتركُ قابلاً للقسمةِ، أُجْبِرَ الشريكُ على المشاركةِ في النفقةِ؛ لأنَّ امتناعَه مُفَوِّتٌ لِحَقِّ شريكِه في الانتفاعِ بماله، وذلك كما في نفقةِ دابةٍ واحدةٍ، أو مَرَمَّةِ قناةٍ أو بئرٍ مُشْتَرَكٍ، أو إصلاحِ آلةِ رِيٍّ، أو سفينةٍ، أو حائطٍ لا ينقسمُ؛ لتضررِ الشريكِ فيه بعدمِ المشاركةِ في إصلاحِه وترميمِه. 

 

 

 

 

 

 

كل هذا يُطَالَبُ الشريكُ فيه على قَدْرِ حصتِه ونصيبِه، ما دام نصيبُ كُلٍّ منهم معلومًا، فلو تَسَاوَتِ الأنصبةُ لَزِمَ أن تتساوى الحقوقُ، ولو زَادَتْ بعضُ الأنصبةِ على بعضٍ فَكُلٌّ يُطَالَبُ على قَدْرِ نصيبِه، ولا يحلُّ لأحدٍ منهم أن يتأخرَ عن شيءٍ من ذلك، ولا أن يتصرفَ في أكثرَ من حدودِ ما يَمْلِكُ، يدلُّ على ذلك ما ثَبَتَ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي الله عنهما أن رسولَ اللهِ ﷺ قال: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ»( ). 

 

 

 

 

 

 

فهذا الرجلُ الذي يملك جزءًا من العبدِ وله شركاءُ إن أرادَ أن يعتقَ العبدَ فيما يتعلق بنصيبِه فهو دائرٌ بينَ أحدِ حَالَيْنِ: إما أن يكونَ له مالٌ يَفِي بحقِّ شركائِه في ذلك العبدِ فحينئذ يُعْطِيهِمْ حَقَّهُمْ على قَدْرِ حِصَصِهِمْ. وإما أن لا يكونَ له مالٌ يَفِي بِحَقِّهِمْ فحينئذٍ يُعتق من العبدِ بمقدارِ نصيبِ سَيِّدِهِ الذي أَعْتَقَهُ فقط. 

 

 

 

 

 

 

ولم يُهْمِلِ الحكمُ الشرعيُّ حالةَ الجهالةِ – أَعْنِي جهالةَ الشركاءِ لحِصَصِهِمْ – فَإِنْ جَهِلُوا حصصَهم ولم تتبين لهم أنصبتُهم فَهُمْ على مَرْتَبَةٍ سواءٍ في الحقوقِ والوجباتِ, والأرباحِ والخسارةِ, والعمارةِ والبنايةِ. 

 

 

 

 

 

 

ولقد جَمَعَ شيخُ الإسلامِ معظمَ هذه المعانِي في قوله: «... ليس لَهُ - يقصدُ رحمه اللهُ تعالى الشريكَ- أن يتصرفَ في الحمَّامِ المشتركةِ بغيرِ إِذْنِ الشركاءِ ولا بِإِذْنِ الشارعِ, ولا يستولي على شيءٍ منها بغيرِ إِذْنِ الشركاءِ, ولا يُقَسِّمُ بنفسِه شيئًا ويأخذُ نصيبَه منه، سواء كان رصاصًا أو غيرَه، ولا يُغَيِّرُ بناءَ شيءٍ منها، ولا يُغَيِّرُ القِدْرَ ولا غيرَها، وهذا كُلُّهُ باتفاقِ المسلمينَ. 

 

 

 

 

 

 

وليس له أن يُغْلِقَهَا، بل يَكْرِي على جميعِ الشركاءِ إذا طلبَ بعضُهم ذلك، وَتُقَسَّمُ بينَهم الأجرةُ. وهذا مذهبُ جماهيرِ العلماءِ، كأبِي حنيفةَ ومالكٍ وأحمدَ. 

 

 

 

 

 

 

وإذا احتاجتِ الحمَّامُ إلى عمارةٍ لا بُد منها، فعلى الشريكِ أن يُعَمِّرَ معهم في أَصَحِّ قَوْلَيِ العلماءِ، واللهُ أعلمُ»( ). 

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

تَبَعُّـــضُ الحُكْــــمِ عَلَى حِسَـــابِ

 

 

 

 

 

 

تَفَـاوُتٍ يَحْصُلُ فِي الأَسْبَابِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

هذا البيتُ إشارةٌ إلى القاعدةِ التي عَبَّرَ عنها الشيخُ السّعديُّ رحمه الله بقوله: «قَدْ تَتَبَعَّضُ الأحكامُ بحسبِ تفاوتِ أسبابِها».

 

 

 

 

 

 

الأصلُ في الأحكامِ الشرعيةِ أنها لا تَتَبَعَّضُ، يعنِي ما يترتبُ على الحكمِ الشرعيِّ يقعُ كُلُّهُ دونَ تجزئةٍ أو تبعيضٍ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [البقرة: 208]. 

 

 

 

 

 

 

والدليلُ عليه من السُّنَّةِ ما رُوي عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كان عتبةُ بنُ أبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلى أخيه سعدِ بنِ أبي وقاصٍ أنَّ ابنَ وليدةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ. قالت: فلما كان عامُ الفتحِ أَخَذَهُ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ وقال: ابنُ أخي، قد عَهِدَ إليَّ فيه. فقام عبدُ بنُ زمعةَ فقال: أخي وابنُ وليدةِ أبي وُلِدَ على فِرَاشِهِ. فَتَسَاوَقَا إلى رسولِ الله ﷺ، فقال سعدٌ: يا رسولَ اللهِ، ابنُ أَخِي، كان قد عَهِدَ إليَّ فيه. فقال عبدُ بنُ زمعةَ: أخي وابنُ وليدةِ أبي، وُلِدَ على فِرَاشِهِ، فقال النبي ﷺ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بُنَ زَمْعَةَ» ثم قال النبيُّ ﷺ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ». ثم قال لسودةَ بنتِ زمعةَ زوجِ النبيِّ ﷺ: «احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» لما رأى من شَبَهِهِ بعُتبةَ، فما رآها حتى لَقِيَ اللهَ( ).

 

 

 

 

 

 

فهنا تَبَعَّضَتِ الأحكامُ؛ ففي الوقتِ الذي حَكَمَ فيه ﷺ أنه أخو السيدةِ سودةَ - رضي الله عنها - حَكَمَ عليها أن تحتجبَ منه؛ لما رأى من شَبَهِهِ بعتبةَ بنِ أبي وقاصٍ، يعني أنه وَقَرَ في نفسِ النبيِّ ﷺ أنه ولدُ عتبةَ بنِ أبي وَقَّاصٍ. 

 

 

 

 

 

 

ومن الأمثلةِ الفقهيةِ على ذلك:

 

 

 

 

 

 

1- البنتُ المتولدةُ من ماءِ زِنَا الرجلِ، ذَهَبَ الجمهورُ –عدا الشافعيةِ- إلى أنها لا تَحِلُّ زوجةً لِمَنْ تَوَلَّدَتْ من مائِه وهم بهذا قَاسُوهَا على البنتِ المتولدةِ من النكاحِ؛ بينما حَكَمُوا في بابِ الميراثِ بتفريقِ الأحكامِ فقالوا بعدمِ ميراثِها منه. 

 

 

 

 

 

 

2- ومن فروعِ هذه القاعدةِ أيضًا: لو تَزَوَّجَ إنسانٌ مجهولةَ النَّسَبِ، ثم اسْتَلْحَقَهَا أبوه؛ أَيْ نَسَبَهَا إليه وادَّعَى أنها ابنتُه، ولم يُصَدِّقْهُ الزوجُ؛ فإنَّ النَّسبَ يَثْبُتُ؛ نظرًا لاستلحاقِ الوالدِ، والزوجيةُ تَبْقَى؛ نظرًا لعدمِ تصديقِ الزوجِ بأنها أُخْتُهُ، وهذا مَبْنِيٌّ على قاعدةٍ أخرى وهي أن الإقرارَ حجةٌ قَاصِرَةٌ( ). 

 

 

 

 

 

 

لو تَأَمَّلْنَا في هذه الأمثلةِ لرأينا أنَّ الفرعَ الفقهيَّ قد تَجَاذَبَهُ أصلانِ على السواءِ من جهتينِ مختلفتينِ، ولم نستطع أن نُلْحِقَهُ بأحدِ الأصلينِ دونَ الآخَرِ، فَأَعْمَلْنَا الأصلينِ جميعًا بناءً على أن إعمالَ الأدلةِ أَوْلَى من إِهْمَالِهَا أو إهمالِ بعضِها، وعلى ذلك ففي قضيةِ البنتِ المتولدةِ من ماءِ زِنَا الرجلِ، يتجاذبها أَصْلَانِ:

 

 

 

 

 

 

1- الأصلُ الأولُ أن هذه البنتَ منعقدةٌ من مائِه ومتولدةٌ منه فَأَشْبَهَتِ ابنتَه من النكاحِ، وقد حَكَمَ الشرعُ الشريفُ بثبوتِ التحريمِ لسببٍ أَضْعَفَ من ذلك، وهو ثبوتُ التحريمِ بينَ البنتِ وَأَبِيهَا من الرَّضاعِ، فالأبُ من الرضاعِ ما هو إلا سببٌ في إيجادِ اللَّبَنِ الذي رَضَعَتْ منه الفتاةُ، وعلى ذلك فالصلةُ بينهما صلةٌ غيرُ مباشرةٍ، ومع ذلك ثَبَتَ التحريمُ، أما المتولدةُ من ماءِ الزِّنَا فإن الصلةَ التكوينيةَ بينَها وبينَ الرجلِ أقوى من صلتِها بالأبِ من الرَّضاعِ فثبوتُ التحريمِ في حَقِّهِ أَوْلَى. 

 

 

 

 

 

 

2- الأصلُ الثاني الذي يتجاذبُ هذا الفرعَ أنَّ البنتَ المنعقدةَ من ماءِ الزنا لا يثبتُ نَسَبُهَا للرجلِ؛ لذلك فقد فَقَدَتْ سببَ الميراثِ الأساسَ وهو النَّسبُ؛ لأنه من المُجْمَعِ عليه أن الزِّنَا لا يُثْبِتُ نَسَبًا.

 

 

 

 

 

 

ونحن نرى أن الأصلينِ في قوةٍ واحدةٍ في اجتذابِ الفرعِ من جِهَتَيْهِ؛ أَعْنِي جهةَ النكاحِ وجهةَ الميراثِ، فَأَعْمَلْنَا الأصلينِ جميعًا.

 

 

 

 

 

 

وبالنسبةِ للفرعِ الثاني، نرى أنَّ الفرعَ قد تَجَاذَبَهُ أصلانِ:

 

 

 

 

 

 

الأولُ: ثبوتُ النسبِ بالإقرارِ وهذا متفقٌ عليه. فَمَنْ أقرَّ لمجهولِ النسبِ أنه ابنُه أو أخوه لَحِقَهُ دونَ المطالبةِ ببينةٍ أو دليلٍ، وهذا مَبْنِيٌّ على تَشَوُّفِ الشرعِ إلى أن يكونَ الناسُ ذَوِي نَسَبٍ يرتبطون به؛ لما في ذلك من دَرْءِ مفاسدَ وجلبِ مصالحَ لهذا الإنسانِ الذي لا نَسَبَ له.

 

 

 

 

 

 

الأصلُ الثاني: أن الإقرارَ إنما هو حُجَّةٌ قاصرةٌ في حَقِّ المُقِرِّ، ولا يتعداه إلى غيرِه، لما قد يَتَسَبَّبُ في مفاسدَ عظيمةٍ إذا تَعَدَّتْ آثارُ الإقرارِ على غيرِ المُقِرِّ، فلو افْتَرَضْنَا مثلًا أن إنسانًا أَقَرَّ على نفسِه وعلى غيرِه بجريمةٍ أو دَيْنٍ أو أي شيءٍ دونَ أن يقيمَ دَلِيلًا زائدًا على الإقرارِ؛ فَإِنَّ ضَرَرَ هذا الإقرارِ يتعدى إلى الغيرِ دونَ بينةٍ أو دليلٍ، فلو قلنا بحجيةِ الإقرارِ في حَقِّ المُقِرِّ وغيرِه، لَثَبَتَتْ دماءٌ وحقوقٌ كثيرةٌ في رقبةِ مَنْ لا ذنبَ ولا جريرةَ له.

 

 

 

 

 

 

وفي قضيتِنا هذه فإن الوالدَ أَقَرَّ ببنوةِ هذه المجهولةِ النَّسَبِ التي هي زوجةُ ابنِه في نفسِ الوقتِ، وهذا الإقرارُ يترتبُ عليه إثباتُ البنوةِ وبالتالي الميراثُ في مالِ هذا الوالدِ بعدَ وفاتِه، وإذا قلنا بتعدي آثارِ هذا الإقرارِ فيلحقُ الزوجَ ضررٌ بالغٌ من جراءِ فَسْخِ عقدِ نكاحِ زوجتِه، وربما كانت هذه حيلةً من الأبِ للتفريقِ بينَهما لِسَبَبٍ أو لآخَرَ.

 

 

 

 

 

 

ولذلك قُلْنَا بثبوتِ النسبِ من جهةٍ، وثبوتِ الزوجيةِ من جهةٍ أخرى، وهي الحالةُ النادرةُ الوحيدةُ التي يتزوجُ فيها الإنسانُ أُخْتَهُ من النَّسَبِ. واللهُ أعلمُ.

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

وَمَنْ نَوَى الرُّجُـــوعَ فِيمَا أَدَّى

 

 

 

 

 

 

عَنْ غَيرِهِ لَهُ يَرُدُّ رَدَّا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السعديُّ رحمه الله بقوله: «مَنْ أدَّى عن غيرِه بِنِيَّةِ الرجوعِ عليه؛ رَجَعَ وإلا فَلَا».

 

 

 

 

 

 

إِنَّ مِنْ أفضلِ الأعمالِ عندَ اللهِ تعالى قضاءَ الدَّيْنِ عن المدينينِ؛ لقولِ رسولِ اللهِ ﷺ: «أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيكَ المُؤْمِنِ سُرُورًا أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا أَوْ تُطْعِمهُ خُبْزًا»( ). 

 

 

 

 

 

 

وعندَ قضاءِ الدَّيْنِ فإن الضامنَ للدَّيْنِ إما أن يَقْضِيَ الدينَ مُتَبَرِّعًا به، غيرَ ناوٍ للرجوعِ به، فلا يحلُّ له حينئذٍ أن يطالب المدين بشيء لأنه تَطَوَّعَ بذلك فأشبهَ الصدقةَ، وسواءٌ ضَمِنَ بِأَمْرِهِ أو بغيرِ أَمْرِهِ. 

 

 

 

 

 

 

وإما أن ينويَ الضامنُ الرجوعَ يعني مطالبةَ المَدِينِ بِالدَّيْنِ، فإنه -والحالةُ هذه- يجوزُ له الرجوعُ عليه سواء ضَمِنَ بأمره وأدَّى بِأَمْرِهِ، أوْ ضَمِنَ بِأَمْرِهِ وَقَضَى بغيرِ أمره، أو ضمنَ بغيرِ أمره وقضى بغيرِ أمره( ). 

 

 

 

 

 

 

وَعَقَدَ الإمامُ البخاريُّ في كتابِ «الكفالة» من الصحيحِ بابَ: مَنْ تَكَفَّلَ عَنْ مَيِّتٍ دَيْنًا فليسَ له أن يرجعَ، وبه قال الحَسَنُ. 

 

 

 

 

 

 

وأوردَ فيما أوردَ حديثَ سلمةَ بنِ الأكوعِ رضي الله عنه: أن النبيَّ ﷺ أُتِي بجنازةٍ لِيُصَلِّيَ عليها فقال: «هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟» قالوا: لَا، فَصَلَّى عليه، ثم أُتِيَ بجنازةٍ أخرى فقال: «هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟» قالوا: نَعَمْ، قال: «فَصَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» قال أبو قتادةَ: عَلَيَّ دَيْنُهُ يا رسولَ الله، فصلَّى عليه( ). 

 

 

 

 

 

 

قال الإمامُ ابنُ حَجَرٍ: ووجهُ الأخذِ منه – أي وجهُ الاستفادةِ من الحديثِ ودلالتُه على الترجمةِ – أنه لو كان لأبي قتادةَ أن يرجعَ لما صلى النبيُّ ﷺ على المدْيان حتى يُوَفِّيَ أبو قتادةَ الدَّيْنَ لاحتمالِ أن يرجعَ، فيكونُ قد صلى على مديان دَيْنُهُ بَاقٍ عليه، فَدَلَّ على أنه ليس له أن يَرْجِعَ ( ). 

 

 

 

 

 

 

ومعنَى هذه القاعدةِ أن مَنْ أَدَّى دَيْنًا أو حقًّا عن غيرِه فَلَهُ أن يرجعَ على مَنْ تَعَلَّقَ الحقُّ بِذِمَّتِهِ بشرطِ أن يكونَ نَاوِيًا للرجوعِ لا للصدقةِ أو الهبةِ أو غيرِ ذلك من التبرعاتِ. 

 

 

 

 

 

 

وقد قَيَّدَ الزركشيُّ القاعدةَ بإذنِ المَدِينِ، فلو لم يأذن فلا يصحُّ الرجوعُ عليه. 

 

 

 

 

 

 

فلو أدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ بلا إِذْنٍ، فإنَّ المدينَ يَبْرَأُ، ولا رجوعَ لمن أدَّى عنه بلا إِذْنِهِ، وهذا محلّ اتفاقٍ لا خلافَ فيه، لكنَّ الخلافَ في صحةِ وقوعِ هذا الأداءِ هبة. كما نَقَلَهُ الزركشيُّ في المنثورِ( ). 

 

 

 

 

 

 

وما سَبَقَ يتعلقُ بديونِ الآدميينَ، فأما دَيْنُ اللهِ تعالى المتوقفُ على النيةِ كالزكاةِ والكفارةِ فلا تقعُ عنه بغيرِ إِذْنِهِ.

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

إِنْ خُيِّرَ المَرْءُ وَكَانَ المَصْلَحَهْ

 

 

 

 

 

 

لَهُ فَمَـا أَحَبَّهُ فَلْيُمْنَحَهْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

وَإِنْ تَكُنْ لِغَيرِهِ فَيَلْزَمُ

 

 

 

 

 

 

الاجْتِهَادُ فِي الَّذِي يُسَلِّمُ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

اقْتَضَتْ حكمةُ اللهِ تعالى في شريعةِ الإسلامِ أن يجعلَ مِنْ بينِ هذه التشريعاتِ ما يُخيَّرُ المرءُ في أَدَائِهِ ولا يُلْزَمُ بوجهٍِ واحدٍ لا يَتَعَدَّاهُ، فيُخيَّر المتوضئ بينَ المَرَّةِ والمرتينِ والثلاثِ، وَيُخَيَّرُ الحاجُّ بينَ الإفرادِ والتمتعِ وَالقِرَانِ، وَيُخَيَّرُ الرجلُ في كفارةِ اليمينِ بينَ الإطعامِ والكسوةِ وتحريرِ الرقبةِ إلى غيرِ ذلك من الصورِ( ).

 

 

 

 

 

 

وهذا التخييرُ إما أن تكونَ منفعتُه عائدةً على الشخصِ نفسِه، وإما أن تكونَ عائدةً على غيرِه، فإن كانت المنفعةُ عائدةً عليه اختارَ ما يتيسرُ له ولا حَرَجَ عليه. 

 

 

 

 

 

 

عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتَقِمُ للهِ بِهَا»( ). 

 

 

 

 

 

 

ومن الأحكامِ الشرعيةِ – كمثالٍ على هذا – قولُ الله تعالى في كفارةِ اليمين: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 89].

 

 

 

 

 

 

فالمرءُ هنا مُخَيَّرٌ بينَ هذه الثلاثِ الأُوَلِ: أن يطعمَ عشرةَ مساكينَ، أو يَكْسُوَهُمْ أو يقومَ بتحريرِ رقبةٍ إن وُجِدَتْ وهو في هذه الحالةِ له تمامُ الاختيارِ كما يَحْلُو له وكما يَرَى لِنَفْسِهِ. 

 

 

 

 

 

 

والحالةُ الأخرى أن تكونَ منفعةُ التخييرِ عائدةً على غيرِه وهو حينئذٍ لا يفعلُ ما تَهْوَاهُ نفسُه بل يُطَالَبُ بفعلِ الأصلحِ والأنفعِ، كَالْقَيِّمِ على مالِ اليتيمِ فإنه يَحِلُّ له التصرفُ فيه، ولكنه مُطَالَبٌ أن يتخيرَ الأفضلَ والأنفع له، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: 152].

 

 

 

 

 

 

والرجلُ يُخَيَّرُ في السفرِ أن يصطحبَ معه نساءَه أو يقيم بهن، وَفِعْلُ الأرفقِ بهن أفضلُ، وهكذا يُرَاعِي الإسلامُ في المصالحِ والمفاسدِ ألا تضيعَ الحقوقُ، ولا تسقطَ الواجباتُ. 

 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

إِنْ يَخْتَلِــفْ رَأْيُ ذَوِي مُعَامَلَـهْ

 

 

 

 

 

 

فِي مُتَعَلِّقَـاتِ ذِي المُعَامَلَهْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

رَجَّــحَ مَنْ يَقْــوَى دَلِيلُــهُ عَلَـى

 

 

 

 

 

 

سِوَاهُ كَالْعُودِ لِمَا تَأَصَّـلَا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يَلــْزَمُ فِي الْمَنَافِعِ الْمُسْتَثْنِيَــاتِ

 

 

 

 

 

 

عِلْمٌ بِهَا فِي الْبَيْعِ لَا التَّبَرُّعَـاتِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

إِنْ يَتَّحِدْ فِعْلانِ لَلتَّعَبُّدِ

 

 

 

 

 

 

جَازَ اكْتِفَـاءٌ مِنْهُمَـا بِوَاحِـدِ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

وَمَـــنْ يُـــؤَدِّ مَا عَلَيْــــهِ نِحَــلَا

 

 

 

 

 

 

وُجُوبـًا الَّـذِي لَهُ قَدْ جُعِلَا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

 

 

إِنْ يَخْتَلِــفْ رَأْيُ ذَوِي مُعَامَلَـهْ

 

 

 

 

 

 

فِي مُتَعَلِّقَـاتِ ذِي الْمُعَامَلَهْ

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

رَجَّــحَ مَنْ يَقْــوَى دَلِيلُــهُ عَلَـى

 

 

 

 

 

 

سِوَاهُ كَالْعُودِ لِمَا تَأَصَّـلَا

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتِ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السعديُّ رحمه الله بقوله: «إِذَا اختلفَ المتعاملانِ في شيءٍ من متعلقاتِ المعاملةِ يُرَجَّحُ أَقْوَاهُمَا دَلِيلًا».

 

 

 

 

 

 

قد يتنازعُ شخصانِ في إثباتِ حَقٍّ من الحقوقِ لله تعالى، أو لأحدِهما قَبْلَ الآخَرِ، وهذا الحقُّ ناشئٌ عن عقدٍ من العقودِ أو معاملةٍ من المعاملاتٍ، كالبيعِ أو الإجارةِ أو النكاحِ، أو في فَسْخٍ من الفسوخِ، كالإقالةِ والطلاقِ، أو غيرِ ذلك من التصرفاتِ. والطريقُ إلى رفعِ ذلك الاختلافِ الادعاءُ به لدى القضاءِ ليفصلَ في شَأْنِهِ، فإن حَدَثَ الاختلافُ بينَ أصحابِ المعاملةِ في أحدِ متعلقاتِ العقدِ، فالقولُ حينئذٍ قولُ مَنْ قَوِيَ دليلُه وَاسْتَبَانَتْ حجتُه، وكانت القرائنُ مُرجِّحةً لقوله.

 

 

 

 

 

 

والأمرُ لا يَخْلُو من أحدِ حَالَيْنِ: 

 

 

 

 

 

 

إما أن تُظْهِرَ القرائنُ رجحانَ قولِ أحدِهما، فالقولُ حينئذ مع مَنْ ظَهَرَتِ الحجةُ له، فمثلًا: اشترى رجلٌ عبدًا فوجدَ فيه إصبعًا زائدةً، فأراد رَدَّهُ، فقال البائعُ: حَدَثَ هذا العيبُ عندَك، وقال المشتري: بل حَدَثَ عندك، فالقولُ قولُ المشترِي؛ إذ لا يمكنُ أن يحدثَ له إصبعٌ زائدةٌ، فالقولُ حينئذٍ قولُ المشتري لرجحانِ حُجَّتِهِ.

 

 

 

 

 

 

ولو اشترى بهيمةً ثم رَدَّهَا، والعيبُ الذي فيها جُرْحٌ، ادعاه المشتري فإذا بالجرحِ لا زال طَرِيًّا فالقولُ حينئذٍ قولُ البائعِ، وهكذا.

 

 

 

 

 

 

والحالةُ الثانيةُ: ألا يظهرَ عندَ أحدِهما ما يُرَجِّحُ قولَه عندَ الآخَرِ، فَذَهَبَ الجمهورُ – المالكيةُ والشافعيةُ والأحنافُ – إلى أن القولَ قولُ البائعِ، وَذَهَبَ الحنابلةُ إلى أن القولَ قولُ المشتري. ويدل لقول الجمهورِ الأَثَر والنظر:

 

 

 

 

 

 

أما الأثرُ فقولُ النبيِّ ﷺ: «إِذَا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ أَوْ يَتَرَادَّانِ»( ).

 

 

 

 

 

 

وهذا نَصٌّ صريحٌ، ولأنَّ المشتريَ مُدَّعٍ أن العيبَ سابقٌ، حتى على قاعدةِ الفقهاءِ، المُدَّعِي: مَنْ إِذَا سَكَتَ تُرِكَ، والمشتري هنا لو سَكَتَ لم يُطَالَبْ، والرسولُ ﷺ يقول: «الْبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي» متفقٌ عليه، والمُدَّعِي هنا بلا شَكَّ هو المشتري، فنقولُ له: ائْتِ أنتَ بِبَيِّنَةٍ أن العيبَ حَدَثَ عندَ البائعِ.

 

 

 

 

 

 

وأما النظرُ فلأن الأصلَ عدمُ وجودِ العيبِ والسلامةِ، ودعوى أن العيبَ سابقٌ على العقدِ خلافُ الأصلِ، وإذا كان لا يُقْبَلُ قولُ المشتري في أصلِ العيبِ فكذلك لا يُقْبَلُ قولُه في زمنِ العيبِ.

 

 

 

 

 

 

ولكن يجبُ أن نعلمَ أن كُلَّ مَنْ قلنا القول قوله، فإنه لا بد من اليمينِ، وهذه قاعدةٌ عامةٌ؛ لقولِ النبيِّ ﷺ: «الْيَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ -وفي لفظ- عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ»( ).

 

 

 

 

 

 

ومن فروعِ هذه القاعدةِ: 

 

 

 

 

 

 

1- لو اختلفَ المتبايعانِ في قِدَمِ العيبِ ولم يكن لأحدِهما بَيِّنَةٌ صُدِّقَ البائعُ في دَعْوَاهُ بِيَمِينِهِ؛ لأنَّ الأصلَ لزومُ العقدِ لأن البائعَ يَدِّعِي أسبقيةَ العقدِ على العيبِ، والمشتري يَدَّعِي تَأَخُّرَهُ عنه، فلو ادَّعَى البائعُ في هذه الصورةِ حدوثَه في يدِ المشتري فمقتضى ما تَقَدَّمَ أنه المُصَدَّقُ، وقد تَقَرَّرَ في القواعدِ: «حيثُ كانَ العيبُ ثَبَتَ الرَّدُّ»( ).

 

 

 

 

 

2- ذَهَبَ أهلُ العلمِ إلى أنَّ أسبابَ الشُّفْعَةِ إذا اجْتَمَعَتْ في أكثرَ من شخصٍ، وَحَدَثَ تنازعٌ بينَهم فإنه يُرَاعَى فيها الترتيبُ بينَ الشُّفعاءِ، فَيُقَدَّمُ الأَقْوَى فالأَقْوَى، فَيُقَدَّمُ الشَّريكُ في نفسِ المبيعِ على الخليطِ في حَقِّ المبيعِ، وَيُقَدَّمُ الخليطُ في حَقِّ المبيعِ على الجارِ المُلَاصِقِ؛ لما رُوِيَ عن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنَ الخَلِيطِ، وَالخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ»( ). 

 

 

 

 

ولأن المؤثرَ في ثبوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ هو دَفْعُ ضررِ الدخيلِ وَأَذَاهُ، وسببُ وصولِ الضررِ والأذى هو الاتصالُ، والاتصالُ على هذه المراتبِ، فالاتصالُ بالشَّركةِ في عينِ المبيعِ أَقْوَى من الاتصالِ بالخلطِ، والاتصالُ بالخلطِ أقوى من الاتصالِ بالجوارِ، والترجيحُ بقوةِ التأثيرِ ترجيحٌ صحيحٌ. 

 

 

 

 

3- إذا تنازعت زوجاتُ الرجلِ في متاعِ البيتِ، فَإِنْ كُنَّ في بيتٍ واحدٍ فإنَّ المتاعَ الخاصَّ بالنساءِ يكونُ بَيْنَهُنَّ على السواءِ، وإن كانت كُلّ واحدةٍ مِنْهُنَّ في بيتٍ على حِدَةٍ فما في بيتِ كُلِّ امرأةٍ هو بينَها وبينَ زوجِها أو بينَها وبينَ وَرَثَتِهِ( ).

 

 

 

 

4- إذا مات صاحبُ الأرضِ أو المُزَارِعُ أو مَاتَا جميعًا، فاختلفَ ورثتُهما أو اختلف الحيُّ منهما مع ورثةِ الآخَرِ في شرطِ الأنصباءِ، فإن القولَ يكونُ قولَ صاحبِ البَذْرِ مع يمينِه إن كان حَيًّا، أو وَرَثَتِهِ إن كان مَيْتًا؛ والحجةُ في ذلك أنَّ الأجرَ يستحقُّ عليه بالشرطِ، فإذا ادَّعَى عليه زيادةً في المشروطِ - وَأَنْكَرَهَا هو - كان القولُ قولَه مع يمينِه إن كان حَيًّا، وإن كان مَيْتًا فَوَرَثَتُهُ يَخْلُفُونَهُ، فيكونُ القولُ قولَهم مع أيمانِهم باللهِ على عَمَلِهِمْ، والبينةُ بينةُ الآجِرِ، لأنه يُثبت الزيادة ببينة( ).

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

يَلــْزَمُ فِي المَنَافِعِ المُسْتَثْنِيَــاتْ

 

 

 

 

عِلْمٌ بِهَا فِي الْبَيْعِ لَا التَّبَرُّعَـاتْ

 

 

 

 


 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السعديُّ رحمه الله بقوله: «استثناءُ المنافعِ المعلومةِ في العينِ المنتقلةِ بمعاوضةٍ جائزٌ، وفي التبرعاتِ يجوزُ استثناءُ المدةِ المعلومةِ والمجهولةِ».

 

 

 

 

حكمُ الاستثناءِ في البيعِ والتبرعاتِ، هذا هو موضوعُ هذا البيتِ، وَحَاصِلُ الأمرِ أنَّ البيعَ لابد في استثناءِ المنافعِ فيه من العلمِ بها؛ لأن الجهالةَ حينئذٍ غررٌ بخلافِ التبرعِ فيجوزُ الاستثناءُ المعلومُ والمجهولُ.

 

 

 

 

مثالٌ يتضحُ به المقال:

 

 

 

 

رجلٌ بَاعَ سيارةً فَاسْتَثْنَى منفعتَها شَهْرًا يجوزُ، أما لو استثنَى منفعتَها طوالَ حياتِه فلا يجوزُ، بخلافِ لو كانت هذه السيارةُ وَقْفًا فيجوزُ الاستثناءُ في الحالتينِ، قال الإمامُ ابنُ رجبٍ: يَصِحُّ عندَنا استثناءُ منفعةِ العينِ المنتقلِ مِلْكُهَا من نَاقِلِهَا مدةً معلومةً. وَضَرَبَ لذلك عدةَ أمثلةٍ منها: الوقفُ، يصحُّ أن يقفَ ويستثنَي منفعتَه مدةً معلومةً أو مدةَ حياتِه؛ لأن جهالةَ المدةِ هنا لا تُؤَثِّرُ، فإنها لا تُؤَثِّرُ على جهالةِ مدةِ كُلِّ بَطْنٍ بالنسبة إلى مَنْ بَعْدَهُ( ).

 

 

 

 

وهاهنا حديثٌ يزيدُ المسألةَ وضوحًا وهو حديثُ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه حيث كان يسيرُ على جَمَلٍ له قد أَعْيَا، فمرَّ النَّبيُّ ﷺ فَضَرَبَهُ، فسار سيْرًا ليس يسيرُ مثلَه، ثم قال: «بِعْنِيهِ بِأُوقِيَّةٍ». فبعتُه، فاستثنيتُ حُمْلانَهُ إلى أهلي، فلما قَدِمْنَا أتيتُه بالجَمَلِ، وَنَقَدَنِي ثمنَه، ثم انصرفتُ، فأرسلَ على أثري قال: «مَا كُنْتُ لِآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ فَهُوَ مَالُكَ»( ). 

 

 

 

 

وقد يُعْتَرَضُ على مثلِ هذه القاعدةِ بِأَمْرَيْنِ: 

 

 

 

 

الأول: أنه وَرَدَ النهيُّ عن بيعٍ وَشَرْطٍ.

 

 

 

 

والثاني: أنه وَرَدَ النهيُ عن بيعِ الثُّنْيَا.

 

 

 

 

وقد أَجَابَ عنهما الإمامُ ابنُ حَجَرٍ فقال: وَوَرَدَ النهيُ عن بيعٍ وَشَرْطٍ، وَأُجِيبَ بأن الذي يُنَافِي مقصودَ البيعِ ما إذا اشترطَ مثلًا في بيعِ الجاريةِ أن لا يَطَأَهَا، وفي الدارِ أن لا يسكنَها، وفي العبدِ أن لا يستخدمَه، وفي الدابةِ ألا يَرْكَبَهَا أما إذا اشترطَ شيئًا معلومًا لوقتٍ معلومٍ فلا بأسَ به.

 

 

 

 

وأما حديثُ النهيِ عن الثُّنيا ففي نفسِ الحديثِ: «إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ» فَعُلِمَ أن المرادَ أن النهيَ إنما وَقَعَ عَمَّا كان مجهولًا، وأما حديثُ النهيِ عن بيعٍ وشرطٍ ففي إسنادِه مقالٌ وهو قابلٌ للتأويلِ( ).

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

إِنْ يَتَّحِدْ فِعْلانِ لَلتَّعَبُّدِ

 

 

 

 

جَازَ اكْتِفَـاءٌ مِنْهُمَـا بِوَاحِـدِ

 

 

 

 


 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «إِذَا اجْتَمَعَتْ عبادتانِ من جنسٍ واحدٍ تَدَاخَلَتْ أفعالهُما وَاكْتُفِيَ عنهما بفعلٍ واحدٍ»( ).

 

 

 

 

قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: إذا اجْتَمَعَتْ عبادتانِ من جنسٍ واحدٍ ليست إحداهما مفعولةً على جهةِ القضاءِ ولا على طريقِ التبعيةِ للأخرى في الوقتِ تَدَاخَلَتْ أفعالهُما، وَاكْتُفِيَ فيهما بِفِعْلٍ وَاحِدٍ.

 

 

 

 

وهذه هي القاعدةُ التي تَضَمَّنَهَا البيتُ الذي مَعَنَا، ثم قال الإمامُ ابنُ رجبٍ: وهو على ضَرْبَيْنِ: 

 

 

 

 

أحدُهما: أن يحصلَ له بالفعلِ الواحدِ العبادتانِ جميعًا، فَيُشْتَرَطُ أن ينويَهما معًا على المشهورِ، كَمَنْ عليه حَدَثَانِ أصغرُ وأكبرُ، فالمشهورُ أنه يَكْفِيهِ عنهما الاغتسالُ إذا نَوَاهُمَا، والصوابُ أنه إن نوى رفعَ الحَدَثِ الأكبرِ أَدَّى عنه الأصغرَ.

 

 

 

 

وكالرجلِ يَنْذُرُ الحجَّ وعليه حجُّ الفرضِ فحجُّه يُجْزِئُهُ عن الفريضةِ وعن النذرِ.

 

 

 

 

وكالرجلِ إذا حَنِثَ في أكثرَ من يمينٍ فاجتمع في حَقِّهِ بعددِ الأيمانِ كفاراتٌ يُجْزِئُ عن كفارةٍ واحدةٍ( ).

 

 

 

 

ومن أمثلةِ ذلك على سبيلِ المثالِ إذا تَعَدَّدَ موجبُ السهوِ في الصلاةِ، فإنه يكفي عنه سجودٌ واحدٌ.

 

 

 

 

وهكذا فَكُلُّ ما صَدَقَ عليه هذه القيودُ عندَ اجتماعِ عبادتينِ من جنسٍ واحدٍ فإنهما يتداخلانِ ويكفي أحدُهما عن الآخَرِ.

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

وَمَــنْ يُـؤَدِّ مَا عَلَيْهِ نحلَا

 

 

 

 

وُجُوبـًا الَّـذِي لَهُ قَدْ جُعِلَا

 

 

 

 


 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «إِذَا أَدَّى ما عليه وَجَبَ ما جُعِلَ له عليه».

 

 

 

 

القاعدةُ التي معنا من خلالِ هذا البيتِ متعلقةٌ ببابِ الجعالةِ - وهي عِوَضٌ معلومٌ لمن يعمل عَمَلًا معلومًا أو مجهولًا، فَالْعِوَضُ لا بد أن يكونَ معلومًا، والعملُ يصحُّ كونُه معلومًا أو مجهولًا – والقاعدةُ حَاصِلُهَا: أَنَّ مَنْ وَفَّى بما عليه من العملِ اسْتَحَقَّ ما له من الجَعْلِ، ومما يُسْتَدَلُّ به من كتابِ الله تعالى على ذلك قولُه تعالى: ﴿وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف: 72].

 

 

 

 

فهذه الآية نَصٌّ في جوازِ الجعالةِ حيث جَعَلَ العِوَضَ معلومًا، والإتيانُ بالمفقودِ لم تُحَدَّدْ معالمُه ولا طريقةُ الإتيانِ، ولذلك نَصَّ العلماءُ تَفْرِيعًا على الأصلِ الذي قَرَّرْنَاهُ أولًا أنه -وإن كانت الجعالةُ عقدًا جائزًا يعني يجوزُ لأحدهما فَسْخُ العَقْدِ- فإن الجاعلَ ليس له أن يفسخَه إذا شرع المجعول له في العمل( ).

 

 

 

 

ولقد عَبَّرَ الإمامُ القرطبيُّ عن القاعدةِ التي معنا بقوله: «مَتَى قال الإنسانُ: مَنْ جاء بعبدي الآبقِ فَلَهُ دينارٌ لَزِمَهُ ما جَعَلَهُ فيه إذا جاء به»( ).

 

 

 

 

وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أن نَفَرًا من أصحابِ النبيِّ ﷺ مرُّوا بماءٍ فيهم لديغٌ – أو سَلِيمٌ – فَعَرَضَ لهم رجلٌ من أهلِ الماءِ فقال: هل فيكم مِنْ رَاقٍ؟ إن في الماءِ رجلًا لديغًا، أو سليمًا، فانطلقَ رجلٌ منهم فقرأ بفاتحةِ الكتابِ على شَاءٍ، فَبَرِئَ فجاء بالشَّاءِ إلى أصحابِه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذتَ على كتابِ اللهِ أَجْرًا، حتى قَدِمُوا المدينةَ فقالوا: يا رسولَ اللهِ، أَخَذَ على كتابِ اللهِ أجرًا! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ»( ). 

 

 

 

 

ومما يتفرعُ على هذه القاعدةِ أن العاملَ إذا لم يَفِ بما عليه من العملِ لم يكن مُسْتَحِقًّا للأجرةِ التي حُدِّدَتْ له، فإنه لم يُؤَدِّ ما عليه حتى يُطَالِبَ بِمَا لَهُ.

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

يَنْضَــافُ بَعْضُ الْفِعْلِ ذَا اتِّحَادِ

 

 

 

 

لِبَعْضِهِ فِي وَحْلِـهِ المُعْتَادِ

 

 

 

 


 

 

 

 

حَوَائِجُ الْمَرْءِ إِذًا تَأْصِيلُ

 

 

 

 

فَلا تَعْدُ عَنْهُ مَـا لاَ تُفَضِّلُ

 

 

 

 


 

 

 

 

وَفِـــي العُقُــــودِ وَالتَّبَـــرُّعَــاتِ

 

 

 

 

يُنْظَرُ فِي الأَسْبَابِ وَالمَدْعَاةِ

 

 

 

 


 

 

 

 

إِنْ حُفَّـــتِِ الْقـــرَائِــنُ الْقَــوِيَّـهْ

 

 

 

 

بِالْحُكْمِ قُدِّمَتْ عَلَى الأَصْلِيَّهْ

 

 

 

 


 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

يَنْضَــافُ بَعْضُ الْفِعْلِ ذَا اتِّحَادِ

 

 

 

 

لِبَعْضِهِ فِي وَحْلِـهِ المُعْتَادِ

 

 

 

 


 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «الفعلُ الواحدُ يَنْبَنِي بعضُه على بعضٍ مع الاتصالِ المعتادِ».

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ لها فروعٌ كثيرةٌ، ومردُّها جميعًا إلى العُرْفِ، أعني مردُّ معرفةِ الاتصالِ المعتادِ من عَدَمِهِ، ولذا قال أهلُ العلمِ بالتفريقِ بينَ الفصلِ الطويلِ وهو ما يَفْحُشُ ويطولُ بحيث يَغْلِبُ على الظنِّ تركُ الفعلِ، وعلى هذا فهو يَضُرُّ ويعد قاطعًا للفعلِ أو العبادةِ، وبينَ الفصلِ اليسيرِ بينَ أجزاءِ الفعلِ الواحدِ فإنه لا يضرُّ، ومردُّ ذلك إلى العُرْفِ.

 

 

 

 

مثالُ ذلك: الموالاةُ في الوضوءِ أي: تَتَابُعُ أعمالِ الوضوءِ؛ فإن الفصلَ اليسيرَ لا يَقْدَحُ في المُوَلَاةِ.

 

 

 

 

عن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه، أن رجلًا تَوَضَّأَ فتركَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ على قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النبيُّ ﷺ فقال: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» فَرَجَعَ ثم صلَّى( ).

 

 

 

 

قال القاضي عِيَاضٌ: وقولُه ﷺ في الذي تَرَكَ موضعَ ظفر قدمِه: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» دليلٌ على استيعابِ الأعضاءِ وغسلِ الرِّجْلَيْنِ، وأنَّ تاركَ بعضِ وضوئِه جهلًا أو عمدًا يَسْتَأْنِفُهُ، لقوله: «فَتَوَضَّأْ»، ولم يَقُلْ: فَاغْسِلْ ما نسيتَ. وقوله له: أَحْسِنْ وضوءَك ولم يقل: اغْسِلْ ذلك الموضعَ، وفيه حُجَّةٌ للموالاة( ).

 

 

 

 

ومن أمثلةِ ذلك: الاستثناءُ في اليمينِ، فلو اتصل الاستثناءُ على صورتِه المعتادةِ ولم يكن ثَمَّ فَصْلٌ يُشْعِرُ بالانقطاعِ فَإِنَّ الاستثناءَ مُعْتَبَرٌ عندَ أهلِ العلمِ. 

 

 

 

 

قال الإمامُ السيوطيُّ: فائدةٌ: قال ابنُ السبكيِّ: الضابطُ في التخلل الُمضرِّ في الأبوابِ: أن ُيعدَّ الثاني منقطعًا عن الأول، وهذا يختلفُ باختلافِ الأبوابِ، فرُبَّ بابٍ يُطلبُ فيه من الاتصالِ ما لا يُطلب في غيرِه، وباختلافِ المتخلل نفسِه، فقد يُغْتَفَرُ من السُّكوتِ ما لا يُغْتَفَرُ من الكلامِ، ومن الكلامِ المتعلقِ بالعقدِ ما لا يُغْتَفَرُ من الأجنبيِّ، ومن المتخلل بعذرٍ ما لا يُغْتَفَرُ من غيرِه، فصارت مراتبَ. أقطعُها للاتصالِ كلامٌ كثيرٌ أجنبيٌّ، وَأَبْعَدُهَا عنه سكوتٌ يَسِيرٌ لعذرٍ وبينَهما مراتبُ لا تَخْفَى( ). 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

حَوَائـِــجُ المَـــرْءِ إِذًا تَأْصِيـــلُ

 

 

 

 

فَلا تُعَدّ عَنْهُ مَـالًا تُفْضِلُ

 

 

 

 


 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «الحوائجُ الأصليةُ للمرءِ لا تُعَدُّ مالًا فَاضِلًا».

 

 

 

 

إنَّ الحوائجَ تَتَنَوَّعُ إلى ضرورياتٍ وتحسيناتٍ، فالضُّرورياتُ مشتقةٌ من الضرورةِ؛ يعنِي استدعت الضرورةُ وجودَ هذه الحوائجِ، أما التحسيناتُ فهي ما يَسَعُ المرءَ الاستغناءُ عنها ولا يجد حياتَه متوقفةً عليها.

 

 

 

 

والحوائجُ الأصليةُ لا يعتبرُها الشرعُ مالًا فاضلًا؛ لأنها بمثابةِ المستهلكِ، وينبني عليه أن الشرعَ لا يطالبُه مثلًا بأداءِ فريضةِ الحجِّ من خلالِ بيعِ هذه الحوائجِ الضَّروريةِ.

 

 

 

 

ولا يطالبُه الشرعُ بالزكاةِ في هذه الحوائجِ مَهْمَا بَلَغَتْ، قال النبيُّ ﷺ: «لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ»( ). 

 

 

 

 

ويتفرعُ على هذا أن الشرعَ لا يَعْتَبِرُ النفقةَ في الحوائجِ مهما بَلَغَتْ تبذيرًا ولا إسرافًا؛ لأنَّ الإسرافَ هو الإنفاقُ في غيرِ حاجةٍ ولا مَصْلَحَةٍ. 

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

وَفِـــي العُقُــــودِ وَالتَّبَـــرُّعَــاتِ يُنْظَرُ فِي الأَسْبَابِ وَالمَدْعَاةِ

 

 

 

 


 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «الأسبابُ وَالدَّوَاعِي للعقودِ والتبرعاتِ مُعْتَبَرَةٌ».

 

 

 

 

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: الصوابُ الذي عليه الكتابُ وَالسُّنَّةُ، واتفقَ عليه الصحابةُ، وهو قولُ أكثرِ الأئمةِ... أنَّ النياتِ معتبرةٌ في العقودِ، كما قال النبيُّ ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وقد عَاتَبَ اللهُ مَنْ أَسْقَطَ الواجباتِ، واستحلَّ المحرماتِ بالحِيَلِ والمُخَادَعَاتِ، كما ذُكِرَ ذلك في سورةِ (ن) وفي قصةِ أهلِ السَّبْتِ، وفي الحديثِ عن النبي ﷺ أنه قال: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللهِ بِأَدْنَى الحِيَلِ».

 

 

 

 

وقال أيوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: يُخَادِعُونَ اللهَ كما يُخَادِعُونَ الصبيانَ، لو أَتَوُا الأمرَ على وَجْهِهِ لكانَ أهونَ عَلَيَّ. اهـ( ) .

 

 

 

 

فكلماتُ شيخِ الإسلامِ هذه تُوَضِّحُ معالمَ القاعدةِ المستفادةِ من البيتِ الذي معنا؛ فإن أسبابَ الأفعالِ ودواعيَها الداخليةَ من النوايا وغيرِها معتبرةٌ في سائرِ العقودِ والتبرعاتِ.

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ أحدُ فروعِ القاعدةِ الشهيرةِ: الأمورُ بمقاصدِها؛ أي حُكْمُ الأمورِ يترتبُ على مقاصدِ فَاعِلِيهَا، وهذا مُسْتَمَدٌّ من قولِ رسولِ الله ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وهو قاعدةٌ كليةٌ لا يخرجُ عنها شيءٌ في عبادةٍ ولا مُعَامَلَةٍ.

 

 

 

 

ويدخلُ في هذا كما وَضَّحَ شيخُ الإسلامِ أمورُ الحِيَلِ كُلِّهَا، فلا يترددُ المسلمُ في الحكمِ ببطلانِها وتحريمِها، وإن كان ظاهرُ الأمرِ مُسْتَقِيمًا إلا أن الناقدَ بصيرٌ فَاحْذَرِ التخليطَ!!

 

 

 

 

ومما يتفرعُ على هذا أن العقدَ الذي يَصْدُرُ من المُكْرَهِ لا يَنْعَقِدُ؛ لأنه لا نيةَ له ولا سببَ يَحْمِلُهُ على الفعلِ، ويدخلُ في هذا الأيمانُ؛ فإن النيةَ فيها مُعْتَبَرَةٌ معمولٌ بها.

 

 

 

 

بل قال الإمامُ الشافعيُّ: هذا الحديثُ – يعني: حديثَ الأعمالِ بالنياتِ – يدخلُ في سبعين بابًا من أبوابِ الفقهِ. فَتَأَمَّلْ.

 

 

 

 

قال الإمامُ ابنُ القَيِّمِ: وقد تظاهرت أدلةُ الشرعِ وقواعدُه على أنَّ القصودَ في العقودِ معتبرةٌ، وأنها تُؤَثِّرُ في صحةِ العقدِ وفسادِه وفي حِلِّهِ وحرمتِه، بل أبلغُ من ذلك، وهي أنها تؤثرُ في الفعلِ الذي ليس بعقدٍ تحليلًا وتحريمًا فيصيرُ حلالًا تارةً وحرامًا تارةً باختلافِ النيةِ والقصدِ، كما يصيرُ صحيحًا تارةً وفاسدًا تارةً باختلافِها، وهذا كالذَّبحِ، فإن الحيوانَ يحلُّ إذا ذُبِحَ لأجلِ الأكلِ ويحرم إذا ذُبِحَ لغيرِ اللهِ... وكذلك الرجلُ يشتري الجاريةَ يَنْوِي أن تكونَ لموكله فتحرُم على المشترِي وينوي أنها له فتحل له، وصورةُ العقدِ واحدةٌ، وإنما اختلفت النيةُ والقصدُ... وكذلك عَقْدُ النذرِ المعلَّقِ على شرطٍ ينوي به التقربَ والطاعةَ فيلزمُه الوفاءُ بما نَذَرَهُ، وينوي به الحلفَ والامتناعَ فيكون يمينًا مكفَّرةً... وكذلك ألفاظُ الطلاقِ صريحُها وكنايتُها ينوي بها الطلاقَ فيكونُ ما نَوَاهُ وينوي به غيرَه فلا تطلق...وهذه كما أنها أحكامُ الربِّ تعالى في العقودِ فهي أحكامُه تعالى في العباداتِ والمثُوباتِ والعقوباتِ، فقد اطَّرَدَتْ سُنَّتُهُ بذلك في شرعِه وَقَدَرِهِ. اهـ( ).

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

إِنْ حُفَّتِ الْقـرَائِنُ الْقَوِيَّـهْ

 

 

 

 

بِالحُكْمِ قُدِّمَتْ عَلَى الأَصْلِيَّهْ

 

 

 

 


 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «إِذَا قَوِيَتِ الْقَرَائِنُ قُدِّمَتْ عَلَى الأَصْلِ».

 

 

 

 

ومعنَى هذا أن القضيةَ قد تَحُفُّ بها من القرائنِ ما يُقَوِّي الحكمَ عندَ القاضِي ويدعُ الأصلَ الذي تقتضيه ظاهرُ القضيةِ.

 

 

 

 

وهذا واضحٌ في سورةِ يوسفَ عليه السَّلامُ فإنَّ امرأةَ العزيزِ تَدَّعِي عليه وهي سيدةٌ في قَصْرِهَا، وَمُقْتَضَى الحالِ أنها صادقةٌ، وَلَكِنَّ القرائنَ التي أَحَاطَتْ بيوسفَ عليه السلامُ وقميصِه حَوَّلَتِ الحكمَ في القضيةِ لِصَالِحهِ. 

 

 

 

 

قال تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: 26- 28].

 

 

 

 

وعن أبى هريرةَ رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللهُ، هُوَ ابْنُهَا، هُوَ ابْنُهَا؛ فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى»( ). 

 

 

 

 

فَانْظُرْ كيفَ كان قضاءُ سليمانَ عليه السلامُ بالقرائنِ مُقَدَّمًا على قضاءِ داودَ عليه السلامُ باعتبارِ الأصلِ، قال الإمامُ ابنُ حَجَرٍ: فَظَهَرَ له من قرينةِ شَفَقَةِ الصغرى وَعَدَمِهَا في الكُبْرَى – مع ما انْضَافَ إلى ذلك من القرينةِ الدالةِ على صِدْقِهَا – ما هَجَمَ به على الحكمِ للصغرى. اهـ( ).

 

 

 

 

قال الإمامُ ابنُ القيمِ: وهل تقتضي محاسنُ الشريعةِ الكاملةُ إلا هذا؟ وهل يَشُكُّ أحدٌ في أن كثيرًا من القرائنِ تفيدُ عِلْمًا أقوى من الظنِّ المستفادِ من الشاهدين بمراتبَ عديدةٍ؟ فالعلمُ المستفادُ من مشاهدةِ الرجلِ مكشوفَ الرأسِ وآخرَ هاربًا قُدَّامه، وبيدِه عمامةٌ، وعلى رأسِه عمامةٌ، فالعلمُ بأنَّ هذه عمامةُ المكشوفِ رأسُه كالضَّروريِّ، فكيف تُقدَّم عليه اليدُ التي إنما تُفيد ظنًّا ما عندَ عدمِ المعارضةِ، وأما مع هذه المعارضةِ فلا تفيدُ شيئًا سوى العلمِ بأنها يدٌ عاديةٌ، فلا يجوزُ الحكمُ بها البتةَ، ولم تأتِ الشَّريعةُ بالحكمِ لهذه اليدِ وأمثالِها البتةَ... وهل الحكمُ بالقافةِ إلا حكمٌ بقرينةِ الشَّبَهِ، وكذلك اللوثُ في القَسَامَةِ... وكذلك الحكمُ بالنكولِ إنما هو مُسْتَنِدٌ إلى قوةِ القرينةِ... اهـ( ).

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

إِذَا تُبِيِّــــنَ فَسَـــــــادُ الْعَــقْـــــدِ

 

 

 

 

بَطَلَ مَا عَنْهُ نَشَا مِنْ بَعْدِ

 

 

 

 


 

 

 

 

وَإِنْ يَكُــــنْ فُسـِــــخَ بِاخْتِيــــارِ

 

 

 

 

يَبْطُلُ عَقْدٌ قَبْلَ فَسْخٍ طَارِي

 

 

 

 


 

 

 

 

لا عُـــذْرَ لِلْمُقِــــرِّ، وَالُمـــوَرِّثُ

 

 

 

 

مُقَامُهُ يَقُومُ مَنْ سَيَـرِثُ

 

 

 

 


 

 

 

 

إِنْ صَـــحَّ حَمْـلُ قَوْلِ مَنْ تَكَلَّمَا

 

 

 

 

عَلَى المُرَادِ مُطْلَقًا تَحَتَّمَا

 

 

 

 


 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

إِذَا تُبِيِّــــنَ فَسَـــــــادُ الْعَــقْـــــدِ

 

 

 

 

بَطَلَ مَا عَنْهُ نَشَا مِنْ بَعْدِ

 

 

 

 


 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «إذا تَبَيَّنَ فسادُ العقدِ بَطَلَ ما بُنِيَ عليه». 

 

 

 

 

من المعلومِ أنَّ العقودَ الصحيحةَ هي التي تكونُ نافذةً فَتَتَرَتَّبُ عليها آثارُها كترتبِ المِلْكِ على البيعِ، وإذا فَسَدَ العقدُ لم يكن لآثارِه وجوده؛ إِذْ لا مُقْتَضَى لوجودِه فالمبنيُّ على الفاسدِ فاسدٌ.

 

 

 

 

ومن أمثلةِ هذه القاعدةِ:

 

 

 

 

1- إذا قال: بِعْتُكَ دَمِي بألفٍ فَقَتَلَهُ وَجَبَ القصاصُ، والبيعُ باطلٌ وما في ضِمْنِهِ من الإذنِ بَطَلَ بِبُطْلَانِهِ.

 

 

 

 

2- إذا صالح عن شفعتِه بمالٍ بَطَلَتْ شفعتُه وسقط المالُ، فلا يجوزُ له أَخْذُهُ.

 

 

 

 

3- إذا اشترى يمينَه بمالٍ لم يَجُزْ، وكان له أن يَسْتَحْلِفَهُ، وفي هذا المثالِ سَقَطَ المتضمِّن دونَ المتضمَّنِ( ).

 

 

 

 

4-إذا اتفق رجلانِ على عقدِ المضاربةِ وَشَرَطَ أحدُهما ربحًا مُعَيَّنًا حينئذٍ يفسدُ العقدُ ولا تترتبُ عليه آثارُه.

 

 

 

 

ويدخلُ في هذا أيضًا العقودُ التي بُنِيَتْ على شروطٍ فاسدةٍ لا يُقِرُّهَا الشَّرْعُ فإنَّ فسادَها يَقْتَضِي بطلانَ العملِ بها ولا كَرَامَةَ.

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

وَإِنْ يَكُــــنْ فُسـِــــخَ بِاخْتِيــــارِ

 

 

 

 

يَبْطُلُ عَقْدٌ قَبْلَ فَسْخٍ طَارِي

 

 

 

 


 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «وإن فُسِخَ فسخًا اخْتِيَارِيًّا لم تَبْطُلِ العقودُ الطارئةُ قبلَ الفسخِ». وهذا تَتِمَّةٌ للقاعدةِ السابقةِ، فإن فَسَدَ العقدُ – كما سَبَقَ – فإنَّ ما تَرَتَّبَ عليه باطلٌ، أما إذا فُسِخَ العقدُ فَسْخًا اختياريًّا فلا تبْطلُُ العقودُ الطارئةُ قبلَ الفسخِ.

 

 

 

 

قال الشيخُ السعديُّ رحمه الله: وهذا ضابطٌ وفرقٌ لطيفٌ، فَمَنِ اشترى شيئًا، أو اسْتَأْجَرَهُ أو اتَّهَبَهُ ونحوه، ثم تَصَرَّفَ فيه وَبَعْدَ تَصَرُّفِهِ بانَ العقدُ الأولُ باطلًا بَطَلَ ما بُنِيَ عليه من التصرفِ الأخيرِ؛ لأنه تَصَرَّفَ في شيءٍ لا يَمْلِكُهُ شَرْعًا.

 

 

 

 

وأما لو تَصَرَّفَ فيه، ثم فُسِخَ العقدُ الأولُ بخيارٍ أو تَقَايُلٍ أو غيرِها من الأسبابِ الاختياريةِ، فإن العقدَ الثانيَ صحيحٌ؛ لأنه تَصَرَّفَ فيما يملكه من غيرِ مَانِعٍ، وحينئذٍ يتراجعُ مع العاقدِ الأولِ إلى ضمانِ المِثْليِّ بِمِثْلِهِ، والمتقوَّم بقيمته.

 

 

 

 

ومثالُه إذا بَاعَهُ شيئًا ووثقه برهنٍ، أو ضمينٍ، أو أَحَالَهُ بالثمنِ، ثم بَانَ البيعُ باطلًا بَطَلَتِ التوثقةُ والحوالةُ؛ لأنَّها مَبْنِيَّةٌ عليه، فإن فُسِخَ الأولُ فسْخًا وقدْ أحالَ بِدَيْنِهِ فالحوالةُ بِحَالِهَا، وله أن يُحِيلَهُ على مَنْ أَحَالَهُ عليه. واللهُ أعلمُ. اهـ. 

 

 

 

 

قال الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله: وهذا يَنْبَنِي على ما ذَكَرَهُ الفقهاءُ رحمهم الله، هل الفسخُ رَفْعٌ للعقدِ من أَصْلِهِ أو حِينِهِ؟ فإن قلنا: إنه رفعٌ للعقدِ من أَصْلِهِ، فإنَّ التصرفاتِ التي تكونُ بينَ العقدِ والفسخِ غيرُ صحيحةٍ؛ لأنها وَقَعَتْ بعدَ ارتفاعِ العقدِ، وإن قلنا: إنَّ الفسخَ رَفْعٌ للعقدِ من حينِه فالتصرفاتُ صحيحةٌ.

 

 

 

 

مثالُ ذلك: بَاعَ رجلٌ بَيْتًا على إنسانٍ، ثم إنَّ المشتريَ أَجَّرَهُ لأنه مالكٌ ثم بعدَ ذلك تَقَايَلَا، يعني فَسَخَا العقدَ البائعُ والمشتري، هل تَبْطُلُ الإجارةُ التي وَقَعَتْ بين العقدِ وبينَ الفسخِ، أو لا تَبْطُلُ؟ يَنْبَنِي على هذا الخلافِ:

 

 

 

 

إذا قلنا: إنَّ الفسخَ رَفْعٌ للعقدِ مِنْ أَصْلِهِ، فالإجارةُ تَبْطُلُ، وإذا قلنا مِنْ حِينِهِ فالإجارةُ صحيحةٌ، ولكن كيف نُوَزِّعُ الأجرةَ؟ نقولُ: الأجرةُ من حينِ الفصلِ للبائعِ الأولِ، وأما قبلَ ذلك فهي للمشتري، لأنَّ المِلْكَ مِلْكُهُ. اهـ( ).

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

لَا عُـــذْرَ لِلْمُقِــــرِّ، وَالُمـــوَرِّثُ

 

 

 

 

مُقَامُهُ يَقُومُ مَنْ سَيَـرِثُ

 

 

 

 


 

 

 

 

اشْتَمَلَ هذا البيتُ على قَاعِدَتَيْنِ: 

 

 

 

 

الأولى: لا عُذْرَ لمن أَقَرَّ على نفسِه. 

 

 

 

 

الثانيةُ: الوارثُ يقومُ مقامَ مُوَرِّثِهِ. 

 

 

 

 

أما القاعدةُ الأُولَى فهي تُقَرِّرُ أنَّ أقوى البيناتِ هي التي يقرُّ المرءُ بها على نفسِه، ومن المعلومِ أنَّ الإقرارَ أحدُ الأدلةِ التي تَثْبُتُ بها التهمةُ جنائيةً كانت أو ماليةً، فإذا أَقَرَّ إنسانٌ بحقٍّ أو تَصَرَّفَ وأقام خصمُه البينةَ عليه بذلك فإن هذه البينةَ باطلةٌ وغيرُ مُعْتَبَرَةٍ، ولا يجوزُ للقاضِي أو الحاكمِ قَبُولُهَا؛لأنَّ الحقَّ ثَبَتَ بإقرارِ المدعى عليه الذي هو أَعْلَى من البينةِ، لأنَّ البينةَ مع قوتِها تحتملُ أن تكونَ كَاذِبَةً، وأما الإقرارُ فاحتمالُ الكذبِ فيه معدومٌ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يُقِرُّ على نفسِه كاذبًا فيما فيه ضَرَرٌ عليه. 

 

 

 

 

ومن أمثلةِ هذه القاعدةِ ومسائلِها: 

 

 

 

 

ادَّعَى شخصٌ دَيْنًا على تركةِ مَيَّتٍ فَأَقَرَّ بذلك أحدُ الورثةِ، فإن الدَّيْنَ يُؤْخَذُ من نصيبِ الُمقرِّ، حتى لوْ أَقَامَ المُدَّعِي البينةَ، وإنما يُؤْخَذُ بالبينة من نصيبِ غيرِ المُقِرِّ( ). 

 

 

 

 

ومما يُستدل به على هذه القاعدةِ ما ثَبَتَ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: أتى رجلٌ رسولَ اللهِ ﷺ وهو في المسجدِ فَنَادَاهُ فقال: يا رسولَ اللهِ، إِنِّي زنيتُ، فَأَعْرَضَ عنه حتى رَدَّدَ عليه أربعَ مرَّاتٍ، فلما شَهِدَ على نفسِه أربعَ شهاداتٍ دَعَاهُ النبيُّ ﷺ فقال: «أَبِكَ جُنُونٌ؟» قال: لا. قال: «فَهَلْ أُحْصِنْتَ؟» قال: نَعَمْ. فقال النَّبيُّ ﷺ: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ»( ).

 

 

 

 

وهذه القاعدةُ ليست على إطلاقِها، فَإِنَّ المرءَ قد يُقِرُّ بما لا يُقِرُّ عليه، فمثلًا المُكْرَهُ إذا أُكْرِهَ بغيرِ حَقٍّ فإن إقرارَه لا يُرَتِّبُ الشرعُ عليه حَقًّا. 

 

 

 

 

قال شيخُ الإسلامِ: «... وإذا أُكْرِهَ على الإقرارِ لم يَصِحَّ إقرارُه»( ). 

 

 

 

 

وكذلك إقرارُ المريضِ مَرَضًا مُتَّصِلًا بالموتِ لبعضِ الورثةِ بمالٍ فإنَّ الجمهورَ لا يقبلونَ هذا الإقرارَ؛ لأنَّ التهمةَ فيه محتملةٌ ظاهرةٌ، خلافًا للشافعيِّ فإنه يقبلُ هذا الإقرارَ بناءً على حُسْنِ الظنِّ بالمسلمِ( ). 

 

 

 

 

أما القاعدةُ الثانيةُ فهي تُقَرِّرُ حَقَّ الورثةِ في مالِ الوارثِ، وأنهم يَقُومُونَ مقامَه في الأمورِ الماليةِ لا في كُلِّ الأمورِ الدنيويةِ؛ إِذْ مالُ الميتِ قد تَعَلَّقَ بالورثةِ بعدَ موتِه، فصاروا يُمَارِسُونَ من الحقِّ ما كان له قَبْلَ موتِه، من العقدِ والفسخِ والبيعِ والشِّراءِ والإقالةِ والإمضاءِ ونحوِ ذلك مما هو معروفٌ مِنْ كُتُبِ الفروعِ. 

 

 

 

 

عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، أن رسولَ اللهِ ﷺ كان يُؤْتَى بالرجلِ الميَّتِ عليه الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ: «هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ؟» فإن حُدِّثَ أنه تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عليه، وَإِلَّا قال: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» فلما فَتَحَ اللهُ عليه الفُتوحَ قال: «أَنَا أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ»( ). 

 

 

 

 

قال أبو العباسِ القرافيُّ: اعْلَمْ أنه يُرْوَى عن رسولِ الله ﷺ أنه قال: «مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلِوَرَثَتِهِ» وهذا اللفظُ ليس على عُمُومِهِ، بل من الحقوقِ ما ينتقلُ إلى الوارثِ، ومنها ما لا ينتقلُ، فَمِنْ حَقِّ الإنسانِ أن يُلَاعِنَ عندَ سببِ اللعانِ، وأن يَفِيَ بَعْدَ الإيلاءِ، وأن يعودَ بعدَ الظهارِ، وأن يختارَ مِنْ نِسْوَة إذا أَسْلَمَ عليهن وَهُنَّ أكثرُ مِنْ أَرْبَعٍ، وأن يختارَ إِحْدَى الأختينِ إذا أَسْلَمَ عَلَيْهِمَا،... فجميعُ هذه الحقوقِ لا ينتقلُ للوارثِ منها شيءٌ، وإذا كانت ثابتةً للمورِّثِ، والضابطُ لما يَنْتَقِلُ إليه ما كان مُتَعَلِّقًا بالمالِ أو يَدْفَعُ ضررًا عن الوارثِ في عِرْضِهِ بتخفيفِ أَلَمِهِ، وما كان متعلقًا بنفسِ المورثِ وعقلِه وشهواتِه لا ينتقلُ للوارثِ، والسِّرُّ في الفرقِ، أنَّ الورثةَ يَرِثُونَ المالَ فيرثون ما يتعلقُ به تَبَعًا له ولا يرثونَ عَقْلَهُ ولا شهوتَه ولا نفسَه، فلا يرثونَ ما يتعلقُ بذلك( ) .

 

 

 

 

* * *

 

 

 

 

إِنْ صَـــحَّ حَمْـلُ قَوْلِ مَنْ تَكَلَّمَا

 

 

 

 

عَلَى المُرَادِ مُطْلَقًا تَحَتَّمَا

 

 

 

 


 

 

 

 

يشيرُ هذا البيتُ إلى القاعدةِ التي نَصَّ عليها السّعديُّ رحمه الله بقوله: «يجبُ حَمْلُ كلامِ الناطقينَ على مُرَادِهِمْ مَهْمَا أَمْكَنَ في العقودِ والفسوخِ والإقراراتِ وغيرِها».

 

 

 

 

إنَّ اللهَ تعالى وَضَعَ الألفاظَ بينَ عبادِه تَعْرِيفًا ودلالةً على ما في نفوسهم، فإذا أَرَادَ أحدُهم من الآخَرِ شيئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وما في نفسِه بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ على تلك الإراداتِ والمقاصدِ أحكامَها بواسطةِ الألفاظِ، فإذا اجتمعَ القصدُ والدلالةُ القوليةُ أو الفعليةُ تَرَتَّبَ الحكمُ، وهذا الأمرُ من مقتضياتِ عَدْلِ اللهِ وحكمتِه ورحمتِه، فإن خواطرَ القلوبِ وإرادةَ النفوسِ لا تدخلُ تحتَ الاختيارِ، فلو تَرَتَّبَتْ عليها الأحكامُ لَكَانَ في ذلك أعظمُ حَرَجٍ ومشقةٍ على الأُمَّةِ. 

 

 

 

 

والألفاظُ بالنسبةِ إلى مقاصدِ المتكلمينَ ونياتِهم وإرادتِهم لمعانِيها ثلاثةُ أَقْسَامٍ: 

 

 

 

 

أحدُها: أن تظهرَ مُطَابَقَة القصدِ لِلَّفْظِ، كما إذا سَمِعَ العاقلُ والعارفُ باللغةِ قولَه ﷺ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا، كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ»( ) فإنه لا يستريبُ ولا يشكُّ في مرادِ المتكلمِ وأنه رؤيةُ البصرِ حقيقةً، وعامةُ كلامِ اللهِ ورسولِه من هذا القَبِيلِ. 

 

 

 

 

القسمُ الثاني: ما يَظْهَرُ بأن المتكلمَ لم يُرِدْ معناه، وقد يَنْتَهِي هذا الظهورُ إلى حَدِّ اليقينِ بحيثُ لا يَشُكُّ السامعُ فيه، وهذا القسمُ نَوْعَانِ: 

 

 

 

 

أحدُهما: أن لا يكونَ مُرِيدًا لمُقْتَضَاهُ ولا لِغَيْرِهِ. 

 

 

 

 

والثاني: أن يكون مُرِيدًا لمعنًى يُخَالِفُهُ، فالأولُ كالمكرهِ والنائمِ والمجنونِ وَمَنِ اشْتَدَّ به الغضبُ والسكران، والثاني: كالُمعرِّضِ والُمورّي والُملْغِزِ والُمتأوِّلِ. 

 

 

 

 

القسمُ الثالثُ: ما هو ظاهرٌ في معناه ويحتملُ إرادةَ المتكلمِ له ويحتملُ إرادتَه لغيرِه، ولا دلالةَ على واحدٍ من الأَمْرَيْنِ، واللفظُ دَالٌّ على المعنَى الموضوعِ له، وَقَدْ أتَى به اختيارًا. 

 

 

 

 

فهذه أقسامُ الألفاظِ بالنسبةِ إلى إرادةِ معانِيها ومقاصدِ المتكلمِ بها( ). 

 

 

 

 

وكلامُ ابنِ القيمِ الذي مَرَّ في غايةِ التأصيلِ والنفاسةِ، وهو مُهِمٌّ لتأصيلِ القاعدةِ التي معنا وبيانِ المرادِ منها. 

 

 

 

 

لمعنًى يُخَالِفُهُ، فالأولُ كالمكرهِ والنائمِ والمجنونِ وَمَنِ اشْتَدَّ به الغضبُ والسكران، والثاني: كالُمعرِّضِ والُمورّي والُملْغِزِ والُمتأوِّلِ. 

 

 

 

 

القسمُ الثالثُ: ما هو ظاهرٌ في معناه ويحتملُ إرادةَ المتكلمِ له ويحتملُ إرادتَه لغيرِه، ولا دلالةَ على واحدٍ من الأَمْرَيْنِ، واللفظُ دَالٌّ على المعنَى الموضوعِ له، وَقَدْ أتَى به اختيارًا. 

 

 

 

 

فهذه أقسامُ الألفاظِ بالنسبةِ إلى إرادةِ معانِيها ومقاصدِ المتكلمِ بها( ). 

 

 

 

 

وكلامُ ابنِ القيمِ الذي مَرَّ في غايةِ التأصيلِ والنفاسةِ، وهو مُهِمٌّ لتأصيلِ القاعدةِ التي معنا وبيانِ المرادِ منها. 

 

 

 

 

عداد الزوار